-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حتَّى لا تصبح لغة ميتة

حتَّى لا تصبح لغة ميتة

دأبنا في الصغر على إطلاق تسمية “اللغة الحية” على الإنجليزية، من زمن “أندي وصفية” إلى أن صارت اللغة الأولى وربما الوحيدة المتمكِّنة من دواليب التكنولوجيا، وكما سمِّينا العملات الأوروبية والأمريكية واليابانية بـ”الصعبة”، سمِّينا أيضا بعض لغاتهم بـ”الحية”، وهو إقرارٌ منا بأن بقية العملات “سهلة”، وبقية اللغات ليست حية حتى لا نقول ميتة.

وبدت حكاية تمكين هذه اللغة الحية على اللغة الزائلة، أو التي ماتت علميا وهي الفرنسية.. مجرد “عنتريات” لا تكاد ترى معركة حتى تردّ السيف إلى غمده، إلى أن جاء القرار الحاسم بوضع اللغة الإنجليزية في التعليم الابتدائي في الجزائر في رحلة علمية جديدة، نأمل منها أن تكون انطلاقة حقيقية حتى لا تتكرر أخطاء الفرْنَسة والتعريب التي قضت على الفرنسية والعربية معا، فما صارت لبعض الجزائريين من لغة سوى هجين وخليط، نشاهد الكثير منه على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أنك تكاد تجزم بأن المغرِّدين أمِّيون، لم يدخلوا مدرسة في حياتهم.

اختيار الإنجليزية لغةَ تعليم متقدِّمة تزامنا مع العصر الذي نعيش فيه، يجب أن لا يكون بعقلية نكاية في لغات أخرى تابعة لأمم أخرى، ولا تحت عنوان تفضيلها على لغة المستعمِر، لأن اللغة في حد ذاتها هي وسيلة تواصل، والإنجليزية نفسها لغة مستعمِر، ومستعمِرين، من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهي اللغة التي كُتبت بها معاهدة “سايكس بيكو” 1916 التي قسّمت المسلمين ووعد “بلفور” 1917 الذي قدّم فلسطين على طبق إنجليزي للإسرائيليين، بل يجب اختيارُها عن قناعة، لأنها لغة علم وتكنولوجيا وتواصل يمكننا بواسطتها اختصارُ المسافات ونقل العلم من نبعه الأصلي، وليس بواسطة جسر لغة أخرى بائسة حتى أهلها صاروا يتجنَّبون التعلّم بها بعد ما عجزوا عن تطويرها وتطوير أنفسهم معها، تماما كما فعل العرب مع لغتهم التي لولا القرآن الكريم الذي نزل بها لدفنوها، كما دفنت الكثير من الشعوب لغاتها وصارت تلوك بقية اللغات وعلى رأسها الإنجليزية.

قرأنا منذ فترة قصّة حقيقية رواها المفكّر الجزائري الراحل نايت بلقاسم، عن جرم العرب في حق لغتهم العربية، وهو جرمٌ لا يختلف عما اقترفه الفرنسيون أيضا في لغتهم.

سافر في خمسينيات القرن الماضي أحدُ الأساتذة الجامعيين الألمان إلى المغرب، وحط رحاله في مدينة الدار البيضاء، بهدف تعلم اللغة العربية على أصولها، وتعرَّف على أستاذٍ مغربي يتقن اللغات ومتمكِّن من لغة الضاد، وباشر الأستاذ الألماني الذي كان يريد القيام بشيء لم يقم به أيُّ ألماني وهو تعلم لغة قيل له عنها بأنها صعبة جدا، واستحسن الأمر وهو يتعلم أبجدياتها، وعشقها عندما بلغ مرحلة تعلم أشعارها وكتابات عمالقة الأدب العربي، وحفظ القرآن وكثيرا من الإلياذات من حبه للعربية، وأمضى أربع سنوات من التعلُّم، حتى تمكَّن منها، وحفظ المنجد العربي عن ظهر قلب. وعندما تمكَّن من العربية بكل أسرارها وجمالياتها، خرج لأول مرة إلى شارع بالدار البيضاء بمفرده، من دون رفيق أو مترجم، ليعيش العربية في شوارع المدينة العربية، وقرر أن يقوم بجولة بعربة يجرُّها حصان، حتى يتنفس مدينة ولغة عربية، وسأل أحد الصبية في قلب “كازابلانكا”، بلغة عربية فصحى قائلا له: “تعالَ يا بني هل يمكنك أن تدلني على مكان أستأجر فيه عربة سياحية لأتجول في المدينة؟”، فردّ عليه الصبي المغربي ببراءة: “كاش كاتقول يا عمّي؟”، فلم يفهم ذاك الألماني شيئا، فعرّج نحو صبي آخر وغيّر المفردات: “بنيّ أريد كراء عربة تسيح بي في أزقة المدينة”، فاستغرب الصبي وتركه، وظل الألماني يسأل والناس لا تفهمه، إلى أن عاد إلى رفيقه المغربيّ ودليله في المدينة، وسأله عن سبب عدم فهم المغاربة لكلامه؟ فضحك الشيخ المغربي وقال له: “يجب أن تقول له كاباغي حنطور نحوّس بيه”، وإذا ذهبت إلى الجزائر قل لهم: “نبغي كاليش” وفي مصر: “عاوز عربة” وفي لبنان: “بدي كاليش”. وهنا لطم الرجلُ الألماني وجهه وقال بلغة عربية فصيحة وربما آخر ما نطق بالعربية: “يا ويلتي على عمر أفنيتُه في تعلّم لغة لم تُركبني حتى حمارا”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!