-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حقيقة مقام النبوة

حقيقة مقام النبوة

إنَّ النبوة واسطة بين الخالق والمخلوق، في تبليغ شرعه، وسفارة بين الملك وعبيده، ودعوة من الرحمن الرحيم تبارك وتعالى لخلقه ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وينقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فهي نعمة مهداة من الله تبارك وتعالى إلى عبيده، وفضل إلهي يتفضل بها عليهم، وهذا في حق المرسَل إليهم.

وأما في حق المرسَل نفسه، فهي امتنان من الله يمنُّ بها عليه، واصطفاء من الربّ له من بين سائر الناس، وهبة ربانية يختصه الله بها من بين الخلق كلهم.

ولا تنال النبوة بعلم ولا رياضة، ولا تدرك بكثرة طاعة أو عبادة، ولا تأتي بتجويع النفس أو إظمائها، كما يظن من في عقله بلادة، وإنما هي محض فضل إلهي، ومجرَّد اصطفاء رباني، وأمر اختياري، فهو جلَّ وعلا كما أخبر عن نفسه: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ (البقرة: 105).

فالنبوة إذن لا تأتي باختيار النبي، ولا تنال بطلبه، ولذلك لما قال المشركون: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ (الزخرف: 31)، فأجابهم الربُّ تبارك وتعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ (الزخرف: 32)، فالله تعالى هو الذي يقسم ذلك ويتفضل به على من يشاء من الناس، ويصطفي من يشاء من عباده، ويختار من يشاء من خلقه، ما كانت الخيرة لأحد غيره، وما كان الاجتباء لأحد سواه. (ابن تيمية، كتاب النبوات، 1/20)

وإنَّ الإيمان بالنبوة هو الطريق الموصل إلى معرفة الله ومحبّته، والمسلك المفضي إلى رضوان الله وجنّته، والسبيل المؤدي إلى النجاة من عذاب الله، والفوز بمغفرته.

يقول ابن تيمية: والإيمان بالنبوة أصل النجاة والسعادة، فمن لم يُحقّق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال، والإيمان والكفر، ولم يُميّز بين الخطأ والصواب.

وإن حاجة العباد إلى الإقرار بالنبوّة أشدّ من حاجتهم إلى الهواء الذي يتنسمونه، وإلى الطعام الذي يأكلونه، وإلى الشراب الذي يشربونه؛ إذ من فقد أحد هؤلاء خسر الدنيا، أما من عُدم الإقرار بالنبوة فخسارته أشدّ وأنكى، إذ خسر الدنيا والآخرة – عياذاً بالله تعالى-، ولا شك أنّ معرفة الله، والإيمان به، وعبادته، ومعرفة رسوله، وطاعته، يحتاجها كلّ مخلوق مكلّف، ومن حكمة الله تعالى أنّه كلّما كان الناس إلى معرفة شيء أحوج، فإنّه جلّ وعلا يجعله سهلاً ميسّراً غير ذي عِوَج. (ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 10/129)

ولحاجة الناس إلى معرفة النبوة، والإقرار بالرسول، فقد وضّحها المولى جلّ وعلا في كتابه توضيحاً أعظم من أن يُشرح في هذا المقام، إذ الشرح يطول.

يقول ابن تيمية: فتقرير النبوات من القرآن الكريم أعظم من أن يُشرح في هذا المقام، إذ ذلك هو عماد الدين، وأصل الدعوة النبوية، وينبوع كلّ خير، وجماع كلّ هدى. (ابن تيمية، النبوات، 1/ 21)

ولابن تيمية كلام رائع نفيس يُجمل فيه ما قُدّم بيانه، يقول فيه: فإنّ الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده، في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرّهم، وتكميل ما يُصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعاً بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه.

– فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصّها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم.

– والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع، والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يُحبّه الله وما يكرهه.

– والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب.

وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل، فإنّ العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يُدرك وجه الضرورة إليها، من حيث الجملة،كالمريض الذي يُدرك وجه الحاجة إلى الطبّ ومن يُداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه، وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطبّ؛ فإنّ آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتاً لا تُرجى الحياة معه أبداً، أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبداً، فلا فلاح إلا باتباع الرسول. (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 19/97)

ويقول أيضاً: النبوة مشتملة على علوم وأعمال، لا بدّ أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم، وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب. (ابن تيمية، النبوات، المرجع السابق، 1/22)

المصدر:

· ملاحظة: استقى المقال مادته من كتاب: ” نوح والطوفان العظيم”، للدكتور علي الصلابي، واعتمد في كثير من مادته على كتاب: “النبوات”، لابن تيمية.

· ابن تيمية، كتاب النبوات، تحقيق: عبد العزيز بن صالح الطويان، أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1420هـ – 2000م، مقدمة المحقق، 1/20.

· ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل ، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1411 هـ – 1991 م ، 9/66، ، 10/129.

· د. علي محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية، دار ابن كثير، الطبعة الأولى.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!