-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
في كواليس التاريخ/ مع المناضل سعد عبسي (2 / 2)

حمّى “سباق السلطة” .. في سجن “ليون” ..

محمد عباس
  • 3786
  • 0
حمّى “سباق السلطة” .. في سجن “ليون” ..

واصل المناضل سعد عبسي مسيرته النضالية (*) انطلاقا من عين الفكرون (أم البواقي) التابعة نظاميا لقسمة الخروب، إحدى القسمات النشيطة في اتحادية حركة انتصار الحريات الديمقراطية بقسنطينة. وفي غضون 1950 شارك في فترة تكوين أشرف عليها المناضل ابراهيم حشاني…

كما حضر في نفس السنة بعاصمة الشرق الجزائري – آنذاك – مهرجانا للحركة بسينما سرتة نشطه الدكتور شوقي مصطفاي، وشاركه في ذلك من المنطقة الشيخ بالقاسم زيناي البيضاوي. وكان هذا المهرجان فرصة لتعرف المناضل عبسي على الشيخ الذي أصبحت تربطه به علاقة طيبة بعد ذلك.

وعندما زار زعيم الحركة الحاج مصالي في ربيع 1952 مدينة الخروب – ضمن جولته عبر عمالة قسنطينة – كان الشاهد من بين مستقبليه، وقد استضافه بها مولود النموشي المنتخب البلدي حينئذ.

وفضلا عن ذلك كان المناضل عبسي قد برهن على حضوره بعين الفكرون، من خلال المشاركة النشيطة إلى جانب الإمام المناضل الشيخ مرزوق في بناء مدرسة القرية ومسجدها.

غير أن هذا الحضور النضالي ما لبث أن أثار تخوف قريبه التاجر الذي يشغله ويأويه في متجره، فأخذ يضغط عليه للتخلي عن نشاطه السياسي في صف الحركة الوطنية الثورية، هذا النشاط الذي يمكن أن يتسبب له في متاعب مختلفة مع إدارة الاحتلال.. وذات ليلة استضاف القريب التاجر على مائدة العشاء الشيخ الشاعر محمد العيد آل خليفة، وبدا له أن يستغل حضور الشيخ ليطلب من الشاب المناضل كتابة رسالة اعتذار وتبرؤ من حزبه!

فوجئ المناضل بهذا الطلب، وكانت مفاجأة قريبه التاجر أكبر برفضه! لذا سارع في حينه بطرده.. من العشاء والعمل في آن واحد! وقد رثي الشيخ محمد العيد لحاله، فسار معه خطوات ليقول له باختصار: “الله معك!”.

بعد الله كان الحزب أيضا معه! فقد تدخل رفاقه لدى التاجر سي رمضان ليشغله على سبيل التغطية على الأقل..

 

جرأة .. شباب الحزب

واصل المناضل عبسي مسيرته النضالية بعد هذا الحادث المؤسف على نفس الوتيرة، ومن ذكرياته في تلك الفترة تمثيل مسرحية حنّا بعل للشيخ توفيق المدني مع الشيخ مرزوق ومناضلين آخرين. وغداة هذا التمثيل جاءه مالطي يدعى “ڤوطاية” يعمل ببلدية عين الفكرون ليقول له بلهجة ساخرة مهددة: “أتعرف ماذا يعني حنّا بعل؟!” وغداة نفي مصالي زعيم الحركة في منتصف مايو 1952، وزع الحزب منشورات تطالب الإفراج عنه، وبلغت جرأة المناضل قاسى من خلية الشباب بالقرية أن تسلل إلى غرفة نوم “ڤوطاية” ووضع نسخة من المنشور على سريره! وقد شن الدرك حملة تفتيش إثر ذلك طالت متجر سي رمضان، ما جعل المناضل عبسي يفضل الاستقلال بمتجر خاص، تمكن من فتحه بمساعدة الحزب.

قبل نهاية السنة فضل الحزب نقله إلى تبسة، ليساعد أحد مسؤوليه هناك وهو محمد الهادي الجريدي. وقد داهمته فيها أزمة الخلاف بين مصالي والأمانة العامة مطلع 1954، وكانت أزمة حادة بالنسبة إليه شخصيا كذلك، إذ فرقت بينه وبين الجريدي، بعد أن انحاز هذا إلى تيار اللجنة المركزية، بينما فضل هو تيار مصالي..

وجد المناضل عبسي نفسه في ركاب الشيخ بالقاسم البيضاوي، أبرز الوجوه المصالية بعمالة قسنطينة إذّاك.. لكن غداة اندلاع الثورة ليلة فاتح نوفمبر 1954، لم تعد آلة القمع الاستعماري تميز بين المناضلين الوطنيين: فكلهم أعداء بصرف النظر عن التيار الذي ينتمون إليه، سواء ان كانوا من المركزيين والمصاليين أو من جهة التحرير الوطني.. وبلغ القمع درجة قصوى بعد انتفاضة الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955، حين طال بعد أيام معدودة المناضل عبسي الذي وجد نفسه رفقة 31 شخصا من تبسة في الطريق إلى محتشد الجرف (المسيلة) الشهير..

مساعدة المكي جيحي على الهروب

وجد الشاهد بهذا المحتشد – الذي كان من أولى المحتشدات التي دشنتها إدارة الاحتلال – العديد من الشخصيات الوطنية، يذكر منها السعيد العمراني ومبارك الجيلاني.. فضلا عن رجالات من ناحية تبسة أمثال الشيخين محمد الشبوكي وعبد الحفيظ بدري.. وكذلك “عمي حمادي” وهو من قدماء المحاربين في الحرب العالمية الأولى الذي لم تمنعه حالة المحتشد من المحافظة على أناقته الموروثة عن تجربته العسكرية! فلا غرابة أن يتحول المحتشد – بمثل هذه العينة من المعتقلين – إلى “مدرسة سياسية تغذي الوعي الثوري وتصقله” كما يؤكد محدثنا.

أسس المعتقلون لجنتين: علنية وسرية، من أعضاء اللجنة الأولى يذكر الشاهد مبارك الجيلاني وعباس بووشمة.. ويذكر من أعضاء الثانية الشهيد المكي حيحي وعلاوة بورجيبة وسي البشير بن شريف..

وبالنسبة للمناضل عبسي فما لبث أن أصبح مسؤولا للتموين بحكم سوابقه في التجارة، بعد أن شارك في الإطاحة بمسير نادي المحتشد، وهو فرنسي كان يبالغ في استغلال المعتقلين بالتلاعب حتى بأسعار الطوابع البريدية.. بحكم هذا المنصب أصبح مناضلا يتنقل من حين لآخر إلى المسيلة، لاقتناء حاجات المحتشد من المواد الاستهلاكية المختلفة.. وقد تفطنت اللجنة السرية – التابعة لجبهة التحرير – لخطورة هذا المنصب فطلبت من صاحبه مساعدة الراغبين في الهروب للالتحاق بجيش التحرير الوطني بشراء ما أمكن من لباس وأحذية .. قبل تهريبهم فعلا بإخفائهم في الشاحنة، وسط براميل الزيت وصناديق المواد الغذائية.

ومن العمليات الناجحة التي شارك فيها تهريب المناضل المكي حيحي الذي استشهد وهو على رأس المنطقة الأولى من ولاية أوراس – النمامشة. فقد كان يطلب من سائق الشاحنة عادة أن يتوقف في مكان مناسب بحجة قضاء أمر ما، ليستغل الهارب من المحتشد ذلك فيتسلل من الشاحنة، ليجد في انتظاره عناصر من جيش التحرير قريبا من المكان المحدد.

وقد تمكن العديد بهذه الطريق من الالتحاق بجيش التحرير في الناحية.

لكن بعد تكرار مثل هذه العمليات قامت إدارة المحتشد في منتصف أكتوبر 1956 بمحاولة تفكيك نظام جبهة التحرير داخله، بنقل 200 معتقل إلى محتشد بطيوة بغرب البلاد.

 

مساعدة.. الآباء العمال

كان الشاهد ضمن المنقولين… وقد وجد محتشد بطيوة مكتظا بالمعتقلين، تسيره لجنة لم يكن أعضاؤها يعرفون المناضل الكبير محمد (البشير) دخلي (1) حق المعرفة فقاطعوه تقريبا، وبعد أيام تدخل رفقة مناضلين آخرين ليردوا له الاعتبار، وينصّبوه على رأس لجنة جديدة ما لبثت أن بعثت جوا طيبا في المحتشد.

في 28 ديسمبر من نفس السنة أفرج عن المناضل عبسي إفراجا مشروطا بالإقامة الجبرية في مسقط رأسه كوينين (وادي سوف). وبعد نحو أسبوعين من العودة إلى قريته استدعاه حاكمها، ليخبره بقرار طرده منها باعتباره شخصا غير مرغوب فيه! تذكر إثرها أن خاله اسماعيل قد لجأ إلى فرنسا بعد حبسه أواخر الأربعينيات بتهمة مساعدة الوطنيين وكان تلقى يد العون عند وصوله من رجال الدين التقدميين المعروفين بالآباء العمال.. لذا قرر الالتحاق به، علما أنه شخصيا سبق أن تعرف على عناصر من هذه الفئة، كانت تنشط ناحية سوق أهراس بفضل البشير شيحاني وعبد المجيد رافع.. وبمجرد وصوله إلى ضواحي شمال باريس وجد لدى الآباء العمال نفس الاهتمام والرعاية، وبعد فترة وجيزة عثر على منصب شغل في مصنع للدهون، ليستأنف عبر هذه البوابة نشاطه النضالي في صفوف اتحادية جبهة التحرير الوطني.

نشط قرابة ثلاث سنوات نواحي “أرجنتاي”، “جانفيليي”، “سان دوني”، “أوبرفيليي”، ضمن شبكات الإسناد والمكلفة بتمويل جبهة وجيش التحرير، وكانت هذه الشبكات تجمع مبالغ هامة شهريا، ولأهميتها كانت تقوم بكيها – كما تكوى الملابس! – حتى يتقلص حجمها فيسهل إخفاؤها ونقلها..

طوال هذه الفترة تمكن من التستر عن نشاطه بنجاح، بدليل أن مصالح الأمن لم تكتشف ما يمكنها من وقفه وحبسه، وإن اعتقل من باب الاحتياط فقط نحو شهرين “بفانسان” وبفضل هذه الاستمرارية في الكفاح تدرج في سلم المسؤولية، إلى أن عُيّن في مايو 1960 مسؤول عمالة بليون التي كان مسؤول ولايتها آنذاك المناضل كمال ثامر بن شنوف، كانت مصالح الأمن يومئذ قد شددت الحماق على مناضلي الاتحادية، لذا قال له هذا الأخير وهو ينصبه في مهمته الجديدة: “يكفي أن نصمد شهرين!” لكن ما حدث أن الصمود في وجه الجهاز البوليسي الفرنسي استغرق 11 شهرا!

في ربيع 1961 توقف نشاط المناضل عبسي، بعد أن عثرت لديه مصالح أمن “ليون” على مسدسين ومبلغ من المال. وبعد التحريات الروتينية حبس بسجن المدينة، كان سجن “سان بول” بدوره قد حول إلى مدرسة متعددة الاختصاصات، فوجد السجين الجديد نفسه مدرسا للغة العربية، ويذكر في هذا الصدد أنه درس سجينا شابا يدعى علي فيلالي، فما لبث أن تفوق عليه!

في هذا السجن عاش المناضل عيسى إضراب 2 نوفمبر 1961 الذي استغرق 22 يوما، بمشاركة “القادة الخمسة” الذين كانوا ما يزالون رهن الإقامة الجبرية في قصر “توركان”. ويذكر هنا بصفة خاصة صمود مناضل بسيط يدعى العيد طافري الذي رفض نقله إلى المستشفى رغم إشرافه على الهلاك. كما يذكر دور طبيب فرنسي بالسجن متعاطف مع جبهة التحرير، كان يهرب بعض الفيتامينات لإسعاف المضربين عن الطعام.

وغداة وقف القتال عاش سجناء “سان بول” هاجس عدوان محتمل عليهم من قبل منظمة “أواس” الإرهابية، لا سيما بعد أن عرضت عليهم مصالح السجن تسليحهم للدفاع عن أنفسهم، ورغم أن هذا العرض بقي حبرا على ورق، فقد بلغت أصداؤه المنظمة الإرهابية بالناحية فأحجمت عن المغامرة..

ولم ينج سجناء “ليون” من حمى سباق السلطة التي ارتفعت بشكل خطير غداة وقف القتال، ناهيك أن عناصر قيادته في اتحادية الجبهة بفرنسا أخذت تجند الفدائيين لترسل بهم إلى العاصمة، بهدف دعم الحكومة المؤقتة وجناح كريم – بوضياف خاصة!

في 29 مارس، أي بعد 10 أيام من وقف القتال، أفرج عن المناضل سعد عبسي فمكث بفرنسا، حيث ساهم انطلاقا من منطقة ليون في تأسيس ودادية الجزائريين ابتداء من خريف 1962. وحسب شهادته فإن المنطقة كانت رائدة في ذلك، سواء من حيث تعداد المنخرطين في التنظيم الجديد، أو مستوى نظامهم وأدائهم لاحقا..

والملاحظ أن النفس النضالي والميل إلى العمل المدني الخيري لم يخب في ضمير هذا المناضل العنيد، بدليل نشاطه في جمعية “أرجنتاي” التي قامت ببناء مسجد في الحي، أشرف على تدشينه أخيرا الوزير الأول الفرنسي رفانسوا فيون..

(*) طالع “الشروق اليومي”. عدد 29 يونيو 2010.

(1) مسؤول التنظيم في حركة الانتصار وعضو “اللجنة الثورية للوحدة والعمل” في ربيع 1954.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!