-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حوار الطرشان !!!

التهامي مجوري
  • 4087
  • 0
حوار الطرشان !!!

سجل القراء 97 تعليقا، على موضوع “الفتوحات والاستعمار”، وكان الموضوع جوابا على تساؤل قرأته لمستشرق، قال فيه لم أجد من المسلمين من فرق لي بين الفتوحات الإسلامية والاستعمار، فذكرت بعض ما اهتديت إليه من فروق بين الفتوحات الإسلامية والإستعمار الغربي، مع التعريج على الطبيعة الإمبراطورية للنظم السياسية في امتداداتها الكونية في النظم السياسية قبل الفتوحات وبعدها، وما تميزت به الفتوحات عنها.

ولكن تعليقات القراء التي أشرت إليها لم تعتن بالأفكار المطروحة في الموضوع وتناقشها، بقدر ما عبرت عن ما في بنفوس أصحابها من مواقف وأراء مسبقة، فمن كات له مشكلة مع العرب حاول تصفيتها بتعليق، ومن كان له حساب مع بني أمية عالجه بتعليق، ومن كانت له مشكلة مع الإسلام صفاها بتعليق…، المهم أن التعليقات -إلا النزل اليسير منها- كانت كما تقول عامتنا الجزائرية “تصب وراء الطاس”، وهنا تذكرت حوار الطرشان. رغم قراءة موضوع مثلا تقتضي أن يقرأ ويستفيد وإن كان له رأي مخالف في نقطة ما، فإنه يعلق بما يناسب رأيه في الموضوع.. لا أن يخضع لمواقف مسبقة ويضع الموضوع وصاحبه في قفص الاتهام ويشرع في وضع لائحة الاتهام ليصل إلى أحكام تقضي على الموضوع وعلى صاحبه؛ بل ربما انحرف هذا النقاش بعقمه إلى حوار طرشان بين المعلقين أنفسهم.  

وحوار الطرشان كما هو معلوم مثل شعبي سائر، يضرب للتعبير عن الحوارات التي لا يستمع فيها المتحاورون لبعضهم البعض، وكأنهم طرشان أي مصابون بالصمم، فهم يتحاورون، ولكن لا يسمعون كلام بعضهم البعض، فحوارهم ومناقشاتهم مثل حوار ومناقشات الطرشان، لا يسمع أحدٌ أحداً، ومن ذلك بعض حصص برنامج “الاتجاه المعاكس” الذي يعده فيصل القاسم وتبثه قناة الجزيرة كل يوم ثلاثاء. والطرشان جمع أطرش، والأطرش هو الأصم الذي لا يسمع.

ولحوار الطرشان قصص وحكايات كثيرة، معظمها لأصحابه أسباب ذاتية، أي مرتبط بالأشخاص المتحاورين أنفسهم، بمستوياتهم وبنواياهم وتنوعها، وبمواقفهم من بعضهم، وبخلفياتهم وأرائهم المسبقة؛ وطبيعة من ينطبق عليهم هذا الوصف –جوار الطرشان-، لا يقفون في حواراتهم ومناقشاتهم على القواسم المشتركة الجامعة بينهم..، وإنما يبحثون عن الضربات القاضية للخصم، وكأنهم في حلبة ملاكمة، وهم في العادة لا يبحثون عن شيء يريدونه، وإنما يبحثون في شيء يعتقدون أنهم يملكونه، فيعرضون أنفسهم على أنهم هم الأحق والأصلح والأفضل، وآراءهم هي الكل في الكل، فلا يعبأون بتحديد موضوع الحوار والنقاش، ولا تهمهم نقاط الخلاف المراد علاجها، ولا يهمهم ما يفيدون به أو يستفيدون… وغير ذلك من المبررات وما أكثرها، وإنما يتعلقون بإثبات الذات وشهوة الكلام..، فيتمنى الواحد منهم لو أنه لا يسمح لأحد بالكلام غيره.

على أن المفترض في التحاور والنقاشات، هو البحث عن حقيقة خافية عن الناس، ومنهم المتحاورون أنفسهم، وذلك من مسلمات الفضول الذي جبل عليه الإنسان، ومن ضرورات المعرفة، ومن مسلمات الاستزادة في العلم والتعلم، بحيث لا يوجد أحد من الناس من يزهد في المعرفة والعلم والاستزادة منهما، ولو على سبيل الفضول، ولكن أنانية “المتحاورين الطرشان”، لا تسمح لهم بالاعتراف بما جبلت عليه البشرية؛ لأنهم خاضعون لمنطق آخر هو قاعدة الأنا المنتفخ، التي لا مكان فيها لوجود الغير ولا للعقل ولا للمنطق ولا لأي شاء خارج عن الذات.

وأشكال هؤلاء المتحاورين الطرشان في تقديري أنواع، كلها تؤدي إلى مصب واحد هو شهوة الكلام من اجل الكلام، وحرمان المخالف منه، لأغراض متنوعة.

على أن حوار الطرشان، سمة من سمات المجتمع المتخلف، لأن المجتمع المتخلف يتميز بالإكثار من الكلام والتقليل من العمل، على خلاف الخلقة التي خلق الله عليها البشر، فالله خلق اللسان قصيرا والذراع طويلا..؛ ولذلك نجد أن المجتمع المتحضر أو المتقدم الذي يتميز بكثر العمل قليل الكلام؛ لأن المفترض في الإنسان السوي وليس المتحضر فحسب أنه يعمل أكثر مما يتكلم، ومن ثم فإن العالم والمجد والعامل النشط؛ بل وكل منتج جاد قليل الكلام كثير الإنتاج، فلا يتكلم كثيرا.. بينما الجاهل والكسول والقاعد تجده كثير الكلام؛ لأنه لا يملك ما يفخر به من أفكار وأعمال ومنتجات، فيستنجد بكثرة الكلام، لإثبات الوجود والتدليل على شيء غير واقع، حتى يعوض ما فاته من أفعال الخير، وعندما يلتقي مكثران من الكلام في المجتمعات المتخلفة، فإن ما يسود عادة هو حوار الطرشان.

الصورة الأولى: المصابون بهذه الآفة ينتهون عادة بالمفاصلة؛ لأن كلاهما أو أحدهما غير مستعد للاعتراف بالآخر، لا بوجوده ولا برأيه، ولذلك نجد في بعض المجالس لا يتكلم فيها إلا واحد، أما الباقي فمنفصلون، لا يشاركون في قليل أو كثير، وينتهي المجلس إلى أن الرجل بدأ يناقض نفسه؛ لأن من كثر لغطه كثر غلطه كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أما المجوعة الساكتة فيبدو انها عرفت المتكلم وتركت له المجال ليريح ويستريح. 

الصورة الثانية: من المتحاورين من لا يملك موضوعا معينا، ليتحاور فيه مع الناس، وإنما يجد الناس يتكلمون في موضوع ما، فيدخل على الخط لا ليشارك برأيه، وإنما ليتكلم؛ لأنه يريد الكلام وكفى، فيدخل في الموضوع المتكلم فيه، وأثناء ذلك يفتح موضوعا آخر، ثم يتفرع عن موضوعه موضوعا ثالثا، فيتكلم في أكثر من موضوع في نفس الوقت، بسبب كثرة الاستطرادات، ولا يعالج منها موضوعا واحدا ويسكت بعد تعب طويل أو تختطف منه الكلمة، من غير أن يحقق شيئا غير شهوة الكلام، وهذا الصنف من الناس لا يترك مجال الكلام لغيره عادة، وإذا سمح لأحد بالكلام فإنه سرعان ما يقاطعه قبل أن يكمل ما يريد قوله، فيخطف منه الكلام ويواصل الكلام إلى غير نهاية.

الصورة الثالثة: من الناس من يتحاور مع غيره، ولكنه أثناء الحوار لا يتابع ما يقول محاوره، وإنما ينتظره حتى يتوقف لينطلق هو في الكلام، فيقول كلاما قد لا تكون له علاقة بالموضوع؛ لأنه لم يكن يسمع كلام صاحبه ليرد عليه أو يوافقه، وإنما ليقول كلاما هيأه من قبل، وربما يكون صاحبه كذلك، فلا يتوصلان إلى شيء، والحصيلة أن كلا منهما قال ما يريد قوله وكفى…، هل كان داخل الموضوع أم خارجه؟ لا يهم..؛ لأن الحوار حوار طرشان..

الصورة الرابعة: تلتقي مجموعة للحوار ولكن لا تحدد محل الخلاف….، فيتكلمون الساعات الطويلة ولا يصلون إلى شيء؛ لأن بعضهم يتكلم عن أصل، وآخر يتكلم عن فرع.. وثالث يتكلم عن مرض وغيره يتكلم عن عرض من أعراض المرض، وربما تكلم آخر بكلام “خارج مجال التغطية” كما يقال.

الصورة الخامسة: الناس صنفان، أحدهما يفكر في المشكلة والثاني يفكر في الحل، أما الذي يفكر في المشكلة في العادة لا يخرج منها؛ لأنه أسيرها بحيث يراها قدرا مسلطا ولا حيلة له معها، ومن ثم فإنه لا يفكر في أكثر من أن يحتمي من مؤثراتها الجانبية، بينما الذي يفكر في الحل، فإنه يعتقد اعتقادا جازما أن لكل مشكلة حل، وعليه فإن تفكيره منصب على كيفية التخلص من المشكلة، أكثر من اهتمامه بمبررات بقائها وما يمكن أن تسببه من إعاقات وعراقيل. فإذا تصورنا متحاورات أحدهما من هذا الصنف والثاني من الصنف الآخر… فإن المحصلة سوف تكون حوار طرشان له أول ولكن لا آخر له.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!