حين تعانق السوريالية الفن الساذج
أندري بروتون Andre Breton شاعر التناقضات والمتناقضات، سلخ حياته كاملة في البحث عن الحقيقة ونقيضها، بين الأحلام العابرة وفظاظة الواقع، بين النزعة الفردانية الجامحة والالتزام بالقضايا العادلة الخاسرة مسبقا. عاش مرفوع الشراع في بحر التجربة الشعرية، يبحث عن أسرار اللغة وخبايا المجاز إلى أن غادر هذه الحياة، وأوصى أن يكتب على شاهدة قبره “هنا يرقد الرجل الذي يبحث عن ذهب الزمن”.
“ذهب الزمن” هذا بحث عنه أندري بروتون في الجنون الذي رفض اعتباره عجزا ذهنيا، وإنما هو قدرة على الإبداع، وفي الكتابة الأوتوماتيكية التي هي نصوص تكتب دون تفكير وبوتائر متسارعة ومن دون رتوشات ولا تعديل، وفي السوريالية التي هي إملاء للفكرة في غياب أيّة رقابة يمارسها العقل، وخارج أيّ اهتمام بالجوانب الأخلاقية والجمالية. كان شعاره هو الحق في الخيال، والدفاع عن كل ما هو سحري، والالهام، وبراءة الطفولة، والمفارقة.
وفي السياسة بحث بروتون عن “ذهب زمانه” في الحركات التي وسمت عصره، فانضم إلى الشيوعيين، لكنه سرعان ما اختلف معهم وانفصل عنهم في 1935، والتقى بتروتسكي قبل أن يغتاله ستالين. وفي 1960 وقّع على بيان الـ 121 الذي أصدرته مجموعة من الشخصيات الأدبية والعلمية والاجتماعية الفرنسية، منهم سارتر وسيمون ديبوفوار وفيدال ناكي وأندري مالرو وكلود سيمون، ورفض ألبير كامو توقيعه. وهو البيان الذي يدعو المجنّدين الفرنسيين الشباب إلى العصيان وعدم المشاركة في تقتيل الشعب الجزائري والكفّ عن بغي الجيش الفرنسي.
وقد تقاطع بحثه عن “ذهب زمانه” قبل ذلك مع الجزائر حين اكتشف الرسّامة باية محي الدين وقدّمها للعالم. ويعود اهتمام بروتون بالرسم إلى سنة 1938، حين نظّم المعرض العالمي الأول للسوريالية بباريس، ثم بعد ذلك ساهم في إنشاء شركة الفن الخام التي كان هدفها جمع وحفظ وعرض أعمال المرضى ذهنيا.
انبهر بروتون بباية محي الدين بعد أن قدّمها له أيمي مايت، وقال عنها إنها “تكرّم خارج بلدها، وإن مخيال الرغبة الانسانية عند ياية هو إشعاع نقيّ لا تقيّده حدود ولا عوائق”.
وإني عاجز، مهما حاولت، أن أتصوّر رد فعل باية اليتيمة النحيفة المراهقة الخجولة المجهولة وهي تتصفح ألبومها بمقدمة بتوقيع اسمين داع صيتهما آنذاك في العالم: إمام السوريالية أندري بروتون وشيخ الدراسات الاستشراقية إميل درمنغايم، ثم وهي تتعرّف بعد عام من ذلك على مؤسس التكعيبية الرسام الاسباني بيكاسو.
ما الذي استرعى انتباه بروتون وأثار فضوله في اللوحات المائية لباية؟ ربّما عفوية رسوماتها، وربّما ألوانها الزاهية، وربّما ما توحيه باية من أحلام بالعودة إلى منابع الطفولة الصافية، وربّما تلك السذاجة الصارخة التي وجدها بروتون في المعنى التشكيلي والخيالي لعالم باية المليء بالطيور والأزهار والآلات الموسيقية. وربّما هي تلك المعاناة التي لا تفصح عن نفسها، وتتخفى في لوحات باية وراء الهروب من الواقع والبحث عن السعادة في أبعاد اللامعنى. وربّما هو كل هذا.
وأنا هنا أقدّم ما كتبه أندري بروتون في سنة 1947 في ألبوم “باية، خلف المرآة”:
“إني أتكلّم ليس كما يفعل الكثيرون من أجل أن أرثي نهاية، لكن لأثني على بداية. وباية في بدايتها ملكة. إنها بداية عصر من الانعتاق والوئام يحدث قطيعة جذرية مع ما سبقه، وأهم ركائزه الأساسية بالنسبة للانسان التشبّع المطلق والمتنامي أكثر بالطبيعة…مهمّة باية أن تشحن بالمعنى هذه الكلمات الجميلة المفعمة بالحنين: بلاد العرب السعيدة. إنها باية التي تحمل غصن الذهب وتعيد إليه الحياة”.
لقاء الشاعر السوريالي اندري بروتون والرسامة باية محي الدين لحظة في التاريخ مفعمة بالمعنى.
لوحة لباية