خذ.. واسكت!
الجميع يطبل ويزمر لإجراءات الحكومة الأخيرة المتعلقة بقروض “لونساج” وإعفاءات الخدمة الوطنية ورفع حالة الطوارئ.. وغيرها من حزمة القرارات التي نامت لعقود واستيقظت فجأة، وكأن البلاد لم يكن فيها شعب ولا مشاكل ولا هم يحزنون!.
-
لا يمكن لعاقل أن يرفض هذا التوجه الاجتماعي الجديد للحكومة، بعد أن كانت ولعقدين كاملين تتعامل مع الجزائريين كقطيع من الأغنام، عليه أن يرضى بالقليل ويسكت للأبد، والمواطن اليوم ليس في حاجة إلى من يفتي له بأخذ هذه الرشوة المقننة، لأنها حق مشروع تأخر لسنوات، نعم لكنه أتى في الأخير، ومن شأنه أن يرفع الغبن عن الكثيرين، ولو أن هذه الاجراءات جاءت قبل 10 سنوات على الأقل لكان وضع الجزائريين أفضل، ولما عشنا وشاهدنا قوارب الموت تحج إلى الضفة الأخرى من المتوسط، ولما انتحر مئات الشباب في عمر الزهور، وكان يمكن للبلاد بما تملكه من خيرات أن تقفز سنوات طويلة باتجاه الرقي والتقدم، لو أن ما يجري هذه الأيام من توزيع مشاريع وقروض تمس حتى النساء الماكثات في البيوت، حدث منذ تخلصت البلاد من آفة الإرهاب وتصالح مواطنوها مع بعض، لكن السبات والفشل والإخفاقات التي غرقت فيها البلاد على مدار العقود الماضية وبالضبط 10 سنوات خلت، عمق من شعور الجزائريين بـ “الحڤرة” والاستغلال والنهب لخيرات هادرة، بل والسطو حتى على حق الأجيال القادمة من البترول من خلال سياسات اقتصادية مفلسة جعلتنا لا نعرف حتى استغلال ارتفاع أسعار النفط لصالحنا، وبدا أنه لا نفط ولا بترول في البلاد، فالوضع لم يتغير سواء كان سعر البرميل 10 دولارات أو 100 دولار!.
-
المواطن يفهم ويشعر أن عطاء الحكومة السخي هذه الأيام، ناتج عن خوفها من رياح التغير التي عرفتها تونس ومصر، وفرق كبير بين من يأخذ حقه من الدولة على أنه حق مكفول دستورا ومن يأخذه لأن الحكومة تريد أن تأمن شره، على الطريقة التي فاز بها الحزب المحظور بداية التسعينات حينما كانت الغوغاء تقول “العشاء عند بن فليس والانتخاب على الفيس”، وعلى الطريقة التي تعامل بها نحناح مع انتخابات 1995، حينما كان يقول للناس “خذوا منهم الأقوات واعطونا الأصوات”، وهذه في الحقيقة عقيدة خطيرة على الوطن، عندما لا يثق المواطن حتى فيمن يجزل له العطاء، لأنه يشك أصلا في نواياه، ويعتقد أن حقه الاجتماعي والدستوري والانساني مرهون بمدى حاجة الحكومة إليه ومدى قربه وبعده منها، وليس لكونه ابنا لهذا الوطن أبا عن جد.
-
صحيح، ليست الجزائر أبدا مثل مصر وتونس وليبيا، وما يعيشه أشقاؤنا من ثورات وانتصارات وحتى فوضى، عشناه نحن ودفعنا ثمنه، ولا أحد مستعد لدخول نفق الفوضى من جديد.. ولكن؟!
-
على السلطات العليا وعلى رأسها الرئيس بوتفليقة أن تقدم للجزائريين ما يجعلهم يثقون ويصدقون ويتجاوبون مع الإجراءات الاجتماعية الأخيرة، يجب أن لا يشعر المواطن أن أحدا يحاول شراء سكوته أو رشوته للقادم من الاستحقاقات السياسية، ولن يكون ذلك إلا إذا تقدمت الاجراءات باتجاه إصلاحات سياسية عميقة تضمن التداول على السلطة ولا تتيح لأحد البزنسة والمتاجرة بالحقوق الاجتماعية من أجل الأصوات الانتخابية .. يتوق الجزائريون إلى رؤية حكومة جديدة خالية من رموز الفشل والإحباط، قادرة على مواكبة جرأة وعمق الاجراءات التاريخية التي أطلقها الرئيس، فلا يعقل في بلد الشباب، أن يظل الوزير وزيرا أكثر من 20 سنة ولا يعقل أن يتبادل الوزراء فيما بينهم وزاراتهم 4 و 5 مرات، حتى أصبحت بعض القطاعات الوزارية تماما مثل بائعات الهوى، يغادرها الوزير ويعود إليها بعد أن يجرب قطاعات أخرى!!.
-
لا مبرر لعدم اعتماد أحزاب جديدة، طالما زالت مبررات حالة الطوارئ، وإذا كان الخوف من بقايا الحزب المحظور أو التائبين قائما فإن الضمان الأكيد هو درجة الوعي والنضج التي أصبحت لدى الشعب الجزائري، بعد سنوات المحن والانحرافات والفوضى، لأنه لن يستطيع أحد في القادم من العهود أن يضحك على الشعب باسم الدين أو باسم الجهة أو باسم الدولة.. لأن الجزائريين بالفعل أقدم شعب عربي الآن على ممارسة الديمقراطية بأكثر وعي ونضج وتحضر مما يحصل في مصر وتونس، فعلى السلطات أن تعي أن أضمن طريق للاستقرار النهائي هو الشراكة مع المواطنين وليست شراء سكوتهم.