جواهر
ضيف الشروق فتيحة بربار وقصة 50 سنة من العطاء الفني

دخلت المسرح وعمرها 14 سنة

جواهر الشروق
  • 11400
  • 14
الارشيف
الفنان الراحلة فتيحة بربار

سندريلا الشاشة، أو سيدة المسرح كما يلقبها جمهورها، ابنة حي القصبة العتيق بكل تقاليده الارستقراطية بدأت مغنية قبل أن تفرض وجودها كأحد أهم وجوه الزمن الجميل في السينما والتلفزيون وقبل أن ترحل عن عالمنا على أثر أزمة قلبية قبل عام من الآن. إنها الفنانة فتيحة بربار التي نستعيد رفقة عائلتها جزء من مسارها.

فتيحة بربار، واسمها الحقيقي فتيحة بلال من مواليد 11 فبرايرعام 1945 بحي القصبة بالعاصمة، بدأت مشوارها الفني كمغنية في عام 1959 حيث انضمت إلى الفرقة الموسيقية للراحلة “مريم فكاي” والمطربة “فضيلة الدزيرية” التي تبقى أقرب الأصدقاء إليها.

التحقت فتيحة بربار بالمعهد الوطني للموسيقى فرع التمثيل، حيث اكتشفها “محي الدين بشطارزي” وأدخلها عالم المسرح، لكنها أيضا كانت وجها من الوجوه التي فرضت نفسها في السينما والتلفزيون. اختارها المخرج الراحل مصطفى قريبي لتقمص دور في إحدى مسرحيات موليير.

كانت سنة 1965 محطة فارقة في حياتها عندما اختارها المخرج مصطفى بديع لتظهر في فيلم “أمهاتن

في مشوارها الفني الطويل قدمت عدة أعمال رسخت بصمتها في عالم المسرح والسينما، حيث وقفت إلى جانب عمالقة التمثيل أمثال رويشد في فيلمي “البوابون” و”حسان الطاكسي”. وعثمان عريوات” في فيلم “عايلة كي الناس”، كما اشتهرت في عدة أعمال تلفزيونية مثل “المصير” و”البذرة“.

 

 إبراهيم بربار يروي قصة زواجه من الفنانة فتيحة

عادت بنا عائلة فتيحة بربار إلى قصة الراحلة مع الفن والتي بدأت مبكرا حيث ارتبط اسم فتيحة بربار بالمسرح وهي لم تتجاوز سن الرابعة عشرة، حيث كانت ترافق والدتها إلى مسرح محي الدين بشطارزي يوم الجمعة لمشاهدة “الروايات” و”القعدات” الفنية هناك اكتشفت الطفلة الأضواء وسريعا تبناها عمالقة المسرح الجزائري السيدة كلثوم ونورية ومصطفى قزدرلي وصاروا لها بمثابة عائلة ثانية ترعى خطواتها الأولى في عالم الفن حيث طلبت فضيلة الدزيرية من والدتها أن تنضم إلى الفرقة النسوية و”تكبر القعدة معها” هي ومريم فكاي. وهكذا كانت في الأول راقصة قبل أن يدخلها عبد الرحمان كاكي إلى المسرح.

 يؤكد السيد إبراهيم بربار زوج الفنانة الراحلة الذي استقبلنا في بيته أن حياة فتيحة كانت عادية مثل أي سيدة جزائرية ترعى أسرتها وأبناءها حيث كانت العائلة في مقدمة وأولوية أولوياتها وكان هو سندها في مهنتها. وعادة ما يعطي رأيه في أعمالها لكنه في المقابل وفر لها جميع الظروف لتواصل مسيرتها.

 السيد إبراهيم بربار الذي يحتفظ بنظرته النقدية تجاه الساحة الفنية يؤكد أنه وعلى مدار سنوات حياته مع فتيحة كان يربطهما اتفاق يقضي أن العائلة خط أحمر “فالخدمة خدمة والعائلة عائلة“.

 يعود السيد إبراهيم بربار إلى بدايات تعرّفه على فتيحة فيقول رأيتها أول مرة عام 1965 لكن لم أتحدث إليها في تلك الفترة، وكانت يومها فتيحة قد رافقت القافلة الفنية التي جاءت عبر القطار الثقافي لمحمد بودية التي قصدت وهران مع فرقة الحداد الجيلالي للمنوعات التابعة للمسرح الوطني وكانت يومها مرفوقة بعدة وجوه مثل مالحة وحجيلة وفطومة وميزاقير وغيرهم.

يروي السيد بربار قصة زواجه من الفنانة فتيحة فيقول “في تلك الفترة كنت أنا مراقبا وطنيا في شبيبة جبهة التحرير الوطني، استقبلت الوفد بهذه الصفة في وهران خاصة وأن الحاج محمد العنقي الذي أعشق أغانيه كان رفقة الوفد.

استوقفتني تلك الشابة الجميلة لكن لم أحدثها أبدا، بعد انقلاب جوان 65 كنت قد توقفت من العمل في الحزب وتوجهت للعمل في الإذاعة وكانت فتيحة تأتي إلى مقر الإذاعة رفقة زهير عبد اللطيف الذي كانت تشتغل معه في الحديقة الساحرة. كنا نلتقي هناك باستمرار تراني وأراها لكن دون أن أتحدث معها أيضا وذات يوم رافقت محمد شويخ ومصطفى جغراني لشرب قهوة في بيتي ذات نهاية أسبوع وكنت أقيم يومها في ” الساكري كور“.

 بعدها خطبتها من عائلتها وفي البداية عارضت عائلتي زواجي من فنانة لكنها رضخت في النهاية بعد إصراري. وعندما جئنا لنحدد تاريخ الزواج قالت لي فتيحة يجب أن نرتبط في 27 ماي أي التاريخ الذي تقابلنا فيه أول مرة في وهران دون أن نتحدث إلى بعضنا.

وارتبطنا في 27 ماي 1967 ومباشرة بعد العقد غادرت إلى تونس في إطار مسرحية كانت قد بدأت في تركيبها. وهنا ثارت عائلتي في وجهي لأنه في ذلك الوقت لم يكن من المقبول أن أعقد قراني اليوم وتسافر زوجتي في الغد كان عيبا اجتماعيا.

 

أحبت مساعدة الناس في السر والعائلة خط أحمر

ما زال السيد إبراهيم بربار متألما من الإشاعات والأمور الكاذبة التي طالت الفنانة بعد رحيلها خاصة من قبل الذين يقدمون أنفسهم على أنهم أصدقاء مقربون منها لدرجة أن هناك من روّج أنها ماتت بمرض خطير ومن ادعى أنها تعاني من مشاكل مع عائلتها.

يؤكد السيد بربار أن عائلتها تضايقت كثيرا من هذه الإشاعات لكنها في المقابل عائلة محافظة مثل أغلب العائلات الجزائرية لم ترغب في الدخول في حرب التصريحات والتكذيبات.

 في حديثه معنا يعود السيد إبراهيم بربار إلى الظروف الصعبة التي عاشتها عائلة فتيحة إبان الإرهاب فقد تعرضت على غرار عديد الفنانين والمثقفين إلى تهديد من طرف جماعات الموت فاتفقت العائلة على وجوب ابتعادها إلى فرنسا عند أبنائها إلى حين هدوء الأوضاع. في فرنسا عملت فتيحة في بعض الأعمال المسرحية التي عرضت في جولات فنية حتى في إفريقيا.

وخلال سبع سنوات جاءت فتيحة ثلاث مرات كما كنت أنا أتنقل دوريا لأتفقدهم. اثنان من أبنائي أيضا تعرضا للتهديد من قبل الإرهاب أحدهما كان يدرس الموسيقى في القبة والثاني باغتته العناصر الإرهابية في المحل بـ”الساكري كور” وكادوا أن يذبحوه. لم نكن نصرح بكل هذا لأننا اعتبرنا أنفسنا مثل أي عائلة جزائرية عانت ما عانه المجتمع ككل في تلك الفترة“.

 خلال مسيرتها الفنية كانت فتيحة بربار إنسانة متواضعة وخدومة لكل من يقصدها حيث تؤكد ابنتها السيدة ليلى أن عند وفاتها عديد الناس الذين حضروا جنازتها حتى الغرباء عن العائلة كشفوا أنها كانت تقدم لهم خدمات ومساعدات دون أن تخبر عائلتها بذلك لأنها كانت مؤمنة أن فعل الخير يجب أن يتم بين الإنسان وربه.

تقول ابنتها اكتشفنا بعد رحيلها أنها كانت تدفع الكراء لإحداهن بالقصبة لمدة 20 سنة وتوفر الكراسي المتحركة لجمعية المعاقين وغيرها. فقد احتفظت طوال حياتها بلوحة كتب فيها “الضجيج لا يفعل الأفضل والأفضل لا يفعله الضجيج“.

 لكن طيبة فتيحة وعطاءها خاصة تجاه الأشياء التي كانت تؤمن بها عادة ما سببا لها المتاعب وكانا على حساب راحتها حيث يؤكد زوجها مثلا أن تفانيها في خدمة جمعية “أحباب رويشد” كان تفانيا منقطع النظير، حيث وفرت فتيحة ما استطاعت للجمعية من دعم مادي ومعنوي لكن عندما توفيت طلبت من مصطفى عياد أن يقدم لي شهادة براءة ذمة لفتيحة من الجمعية، وثيقة أردت أن أضمها لأرشيفها الخاص حتى تبقى للتاريخ يجدها أحفادها ومن سيؤرخ مستقبلا للفن الجزائري لكنه على ما يبدو استخسر فيها مجرد ورقة وهي التي ناضلت في جمعية تحمل اسم والده لا لشيء إلا وفاء منها لذكرى فنان احترمته كثيرا ووقفت إلى جانبه في أعمال خالدة .

 وعن طريقة اختيار فتيحة لأعمالها الفنية يقول السيد إبراهيم بربار من تلقاء نفسها كانت تحرص على اختيار الأعمال التي تسيء إلى العائلة ويكشف السيد إبراهيم بربا ر أن آخر فيلم شاركت فيه الراحلة وأخرجه باديس فضلاء وفيه تظهر فتيحة في دور أم كبيرة ومريضة حتى أن بعض وسائل الإعلام استعملت صور هذا الفيلم لتقول إن فتيحة قتلها المرض. بينما هي رحلت بسكة قلبية.

بعض وسائل الإعلام ذهبت أبعد من ذلك عندما تفننت في رسم سيناريوهات لرحيلها مثل أنها كانت تتوضأ ومنهم من قال إنها دخلت المستشفى وغيرها من الأكاذيب. فتيحة تعودت على أن تذهب دوريا لزيارة أبنائها وأحفادها في فرنسا وباغتتها السكتة القلبية من دون سابق إنذار والتقرير الطبي موجود.

تمنيت لو لم تشارك في فيلم باديس فضلاء فمشكلة الأفلام والمسلسلات صارت مؤخرا لا تقدم للفنان نظرة متكاملة عن العمل خارج دوره هو، وبالتالي من الصعب التكهن بشكل ونوع العمل لكن فتيحة كانت أيضا تستند إلى الأشخاص الذين تثق فيهم وتظهر معهم في هذه الأعمال حتى ترسم اختيارها.

 من جهة أخرى يؤكد السيد إبراهيم بربار أن فتيحة لم تكن تخالط كثيرا لا الوسط الفني ولا الوسط السياسي، عدد أصدقائها محدود جدا فقد كانت وهيبة زكال ونورية وعويشات أقرب الناس إليها لدرجة أنها احتفظت بثياب عويشات التي ماتت وهي ترتديها مدة 15 سنة في حقيبة.

إلى جانب هذه الأسماء احتفظت أيضا فتيحة بربار بعلاقة طيبة مع دوجة عشاشي وعايدة كشود وفتيحة بن دياب.

السيد إبراهيم بربار في حديثه للشروق عاد أيضا إلى قصة رفض فتيحة بربار للحج وهي القصة التي أثارت الكثير من الجدل وأسالت الحبر، قال السيد بربار إن زوجته رفضت الحج لأنهم وضعوا اسمها دون استشارتها وعندما جاءتها الدعوة لم تكن مستعدة لأنها كانت سترتب للحج رفقة زوجها وليس بمفردها.

 وتضيف ابنة السيدة بربار أن عديد التكريمات والعمرات التي قدمت لفتيحة بعد رحيلها كانت مجرد إشهار يعلن عنها أصحابها ويختفون بعد إسدال ستار التظاهرات.

 يعتبر الدور الذي ظهرت فيه فتيحة بربار مع عثمان عريوات “عيلة كي الناس” أبرز أدوارها التي بقيت راسخة في ذاكرة الجمهور وجعل منها نجمة جماهيرية.

عن هذا الدور يقول زوجها “فتيحة كانت تستمتع لأن عريوات فنان كبير كانت تعود إلى البيت والدور ما زال يسكنها لكنها تقاضت مبلغ 8 ملايين سنتيم وهذا يعطي صورة عن وضع الفنان عموما في الجزائر”.

فتيحة لم تكن نجمة ثرية كما يتصورها البعض لكن والحمد الله يؤكد زوجها لم تكن مضطرة للعمل حتى تعيش زوجها وفر لها حياة كريمة وهي كانت تحب فنها وأعطته أفضل ما لديها بعيدا عن الربح المادي. فقد خرجت بمنحة تقاعد تقدر بـ10 آلاف دينار بعد مسيرة 50 سنة مسرح.

حتى وإن لم تحقق فتيحة بربار ربحا ماديا من وراء فنها لكنها في المقابل ربحت حب الجمهور الذي كانت تعتبره أفضل وسام وأحسن جائزة، حيث يؤكد زوجها أنه مدة 30 سنة لم يسير معها في الشارع أو في السوق لأن الجمهور عادة ما يلاحقها بأخذ الصور معها أو توقيعها ليس في الجزائر فقط بل حدث ذلك أيضا في فرنسا. خاصة وأنها كانت لا تعرف كيف تقول لا لجمهورها.

 تكشف ابنتها أن فتيحة بربار حاولت جر أبنائها في البداية إلى الفن مثل ابنتها ليلى التي تشبهها كثيرا لدرجة التطابق فقد ظهرت في أحد أفلامها حيث لعبت دور الطفلة كما تدربت على البيانو وكانت تأخذنا باستمرار إلى المسرح لكنها لاحقا أقلعت عن هذا الدور وصارت تسعى لحمايتنا من هذا الوسط بعد أن انحدر مستوى الفن في بلادنا.

ففي بعض أدوارها كانت تأتي إلى البيت منهارة وهي على وشك البكاء لأنها لم تكن تجد التجاوب خاصة من طرف الجيل الجديد، لكنها رحمها الله بقيت وفية لفنها ورسالتها وماتت دون أن تندم على شيء، فقد فعلت ما كانت ترغب في فعله وكانت ربما ستختار أن ترحل على خشبة المسرح.

مقالات ذات صلة