الرأي

”دعوني أمت واقفا”

قائل هذه الكلمة لمن نصحوه بالإشفاق على نفسه التي أنهكتها الأمراض وأوهنتها الأدواء، وإعطائها بعض حقها من الرّاحة هو أحد رجالات الجزائر ذوي الهمم العالية، الذين عاشوا لشعبهم من المهد إلى اللّحد.. ولم يعش عليه كما يفعل اليوم أكثر السماسرة، الذين يسمون أنفسهم الطبقة السياسية، الذين أكلوا لحمه، وأذابوا شحمه، وامتصوا دمه، وكانوا عليه أشدّ من عدوه، فاتخذوه ظهرا يركب وضرعا يحلب..

ولكن الأمر الذي يحز في النفس ويؤلمها، ويعصر القلب ويمزق نياطه هو تجهيل شبّان الجزائر بهذا الرجل الذي جمع بين شرف العلم النافع ومجد العمل الصالح.. لأن هناك من شياطين الإنس من يريد لهؤلاء الشبان أن يعيشوا -كالأنعام- لبطونهم وشهواتهم.. لا تشغل عقولهم فكرة، ولا تحمل نفوسهم همّا من هموم وطنهم وأمتهم.

هذا الرجل الصغير في حجمه، القليل في وزنه، الكبير في عقله، العظيم في نفسه هو الطبيب محمد الشريف سعدان الذي سمّته بعض الصحف الفرنسية العنصرية “الحنش الأزرق(1)“، لأنها كانت تراه خطرا على الوجود الفرنسي في الجزائر لأنه كان – رغم ثقافته الفرنسية – معتصما بجزائريته، متمسكا بثوابت شعبه ومقوماته من دين حنيف، ولسان شريف، ومجد تالد وطريف.

أصل محمّد الشريف سعدان من قبيلة “أولاد بوفاهة” بنواحي الميلية (ولاية جيجل)، التي أنجبت الغرّ الميامين، الذين قال فيهم أحد الشعراء:

من جيجل ينقضّ جيش ذو لجب أمضى من الجمر إذا الجمر التهب

ولد سعدان في 4 نوفمبر من سنة 1893، وانتقل مع عائلته إلى مدينة باتنة، وهناك تلقى التعليم الابتدائي، ليلتحق بعده بمدينة قسنطينة، حيث انفتح وعيه على أصوات العلماء الدّاعين إلى الإصلاح، مثل الشيخ صالح ابن مهنّه (ت 1911)، والشيخ عبد القادر المجّاوي (ت 1914)، والشيخ عبد الحميد ابن باديس (ت 1940).

درس مدة من الزمن في “المدرسة ()، ثم دخل الثانوية حيث نال شهادة البكالوريا، التي مكّنته من التسجيل في كلية الطب بجامعة الجزائر، ثم أكمل تعليمه في كلية الطب بجامعة تولوز بفرنسا، حيث أدرك بمعياشته المجتمع الفرنسي حجم الجريمة الشنعاء التي ارتكبتها فرنسا في حق شعبه، إذ صيّرته أقرب إلى الحيوان الأعجم منه إلى الإنسان المكرم، وتأكد أن أمته – كما يقول صديقه الشيخ محمد خير الدين – “لأشد حاجة إلى طب الأرواح منها إلى طب الأجسام (2)“.

رجع سعدان إلى الجزائر في سنة 1921 فوجد فيها رجلا يدعو قومه – بلسانه وقلمه – إلى اليقظة، وتنظيم أنفسهم لاستعادة حقوقهم، خاصة بعد التضحيات التي بذلوها في سبيل فرنسا – الناكرة للجميل – في الحرب العالمية الأولى، ذلكم الصوت هو صوت الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر.

عين سعدان طبيبا في بلدة قريبة من مدينة عنابة، ولبث فيها ست حجج، ثم استقال من الوظيفة، واختار الإقامة بمدينة بسكرة في 1927، وفتح فيها عيادة، “فكان ملجأ الضعفاء المساكين، ومشتكى البؤساء المظلومين، يداوي جسم العليل، ويماشي المظلوم، ينتزع له حقه من مخالب الطغاة انتزاعا، أو يفزع الطاغية بصولة منه إفزاعا (3)“.

في هذه الأثناء كانت بسكرة – رغم وقوعها تحت الحكم العسكري – تشهد ميلاد الحركة الإصلاحية المباركة، التي أيقظت النائمين، ونبّهت الغافلين، وهدت الضالين، وكان من نجوم هذه الحركة محمد الأمين العمودي، ومحمد الهادي السنوسي، ومحمد العيد آل خليفة، والطيب العقبي، الذي كتبت عنه جريدة الشهاب قائلة: “من ذا الذي لا يتمثل في ذهنه العلم الصحيح، والعقل الطاهر، والصراحة في الحق، والصرامة في الدين، والتحقّق بالسّنة، والشّدّة على البدعة، والطيبة في العشرة، والصدق في الصّحبة، إذا ذكر الأستاذ العقبي؟(4)“، فتفاعل سعدان مع هذه الحركة، وتعاون معها على خير العباد والبلاد.

منّ الله على الجزائر، فيسّر الخيرة من أبنائها إلى تأسيس “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”، فكان موقف سعدان “معها – دائما – موقف الولاء والموادّة، ينصرها في الشدائد، ويدفع عنها في الأزمات، ويمد إليها اليد كلّما حزب الأمر، واشتد البلاء (5)“.

انخرط سعدان في العمل السياسي، مكمّلا به عمل المصلحين الذين تحمّلوا عبء العمل الديني والتربوي، والاجتماعي، وما كان هدف سعدان من العمل السياسي تحقيق زعامة كاذبة، ونشدان شهرة زائفة، وجمع مال حرام كما يفعل اليوم عندنا أكثر من يسمون أنفسهم “سياسيين”.. الذين لا يهمّهم إلا مظاهر السياسة ومكاسبها، رغم ما يتشدقون به من أكاذيب جاهلين أن الكذب يخرج صاحبه من الإيمان..

ترشح سعدان للنيابة العمالية (أي الولائية)، وكان النصر حليفه.

كانت فرنسا قد أصدرت قانونا يعتبر اللغة العربية لغة أجنبية، فإذا الدكتور سعدان يقف في الجلسة الرسمية للمجلس العمالي ليدوس قانون فرنسا، “وألقى خطابه الرسمي باللغة العربية الفصحى، ولم يتنازل لترجمته (6)“.

وبذل سعدان جهدا كبارا في المؤتمر الإسلامي في 1936، وما كان المؤتمر ذا هدف اندماجي كما يزعم الجاهلون، ولو كان يزعمون لأسرعت فرنسا لقبوله، ولما دبّرت مؤامرة اغتيال كحول لإفشاله…

اغتنم قادة الجزائر (الإبراهيمي، فرحات عباس، مصالي الحاج) فرصة نزول قوات الحلفاء (الأمريكان والانجليز) بالجزائر، فتنادوا إلى إصدار وثيقة تضمنت مطالب الشعب الجزائري، وسموا تلك الوثيقة “البيان”، إلى تطور إلى تنظيم سياسي جامع للجزائريين سمي “أحباب البيان والحرية” (A.M.L)، وعقد مؤتمر هذا التنظيم في مدينة الجزائر في شهر مارس 1945، وعهد المؤتمرون بإدارته وتسييره إلى سعدان “فأداره بحنكة ودراية تركت الجميع يلهجون بخلاله العظيمة (7)“.. و”كان الحكيم سعدان الشخصية الثانية في هذا الميدان الجديد، وتطلعت الأمة لتشاهد بطلا من أروع أبطالها، وقائدا من خيرة قادتها، وسياسيا من أمهر سياسييها، سداد رأي، وصدق عزيمه (8)“.

وفي حوادث 8 ماي 1945 كان سعدان ضمن من شملتهم “رجولة” الفرنسيين التي انمحت أمام الألمان، فزجّ به في أسوإ السجون الفرنسية (الجزائر- قسنطينة) وسوق اهراس الذي نقل إليه – وهو المصدور – “في زمهرير الشتاء في سيارة مكشوفة”، ثم أطلق سراحه وهو “نصف ميت”، كما وصفه الشيخ محمد خير الدين.

ما إن التقط سعدان أنفسه، واستعاد بعض قوته حتى عاد إلى نشاطه وترشح إلى الانتخابات البرلمانية، وفاز رغم التزوير الذي ورثه بعض السياسيين عن الفرنسيين، وفي المجلس النيابي بباريس سمع الفرنسيون خطابا من سعدان لم يعرفوا مثله، حتى بلغ الأمر بذلك الصليبي الفرنسي جورج بيدو، وزير الخارجية إلى استدعاء الوالي العام الفرنسي في الجزائر، وقال له: “لا أريد أن يرجع إليّ هؤلاء مرة أخرى بأي ثمن كان (9)“.

كان سعدان يقوم بعمل كثيف، لا يطيقه جسمه النحيف، ولا يتحمله جسده الضعيف ووزنه الخفيف، فكان خلاّنه وعارفو قيمته يطلبون منه التخفيف، وإعطاء نفسه بعض الراحة، إشفاقا عليه ورأفة به، فيقول لهم: “دعوني أمت واقفا، أريد ذلك في خدمة بلادي (10)“، واستمر كذلك حتى أتاه اليقين في 26 / 10 / 1948، في إحدى المصحات بفرنسا، وجيء بجثمانه ملفوفا بعلم المجاهد الأمير عبد القادر، وشيعه إلى مثواه الأخير في بسكرة – التي أغلقت عن آخرها – ما بين 20 و25 ألفا، يتقدمهم الإمام الإبراهيمي، والشيخ التبسي، وفرحات عباس.. ومما قاله الإمام الإبراهيمي: “إن سعدان رجل عظيم حقا، ولكننا ما عرفنا عظمته حتى أصبح قريبا من الموت (11). وأما الشيخ أحمد سحنون فقد صاغ رأيه في سعدان شعرا نقش على قبره فقال:

هنا صارم أغمدته المنون وما كان يألف غمد الجفون

هنا جسد أنهكته السقام وقلب ألحّت عليه الشجون

هنا نام طرف تحدّى الكرى ولم يلتفت لحياة الفتون

هنا “قبر سعدان” رمز الفدى سقته الغوادي بغيث هتون (12)

نقطة ضعف سعدان هي زواجه من فرنسية، أنجب منها ولدا، كان هو يريد تنشئته على ما نشأه عليه أبواه من “حنين عظيم إلى كل ما يتصل بالعروبة والإسلام”، وكانت هي تريد أن تنشئه على ما نشّأها عليه أبواها، فتنازعا فيه، فسجل ذلك محمد الأمين العمودي في أبيات لطيفة ليعتبر بها أمثال سعدان، قال العمودي:

حيّي “الطبيب” ولا تنس قرينته فهو “سليمان” والمادام بلقيس

له غلام أطال الله مدّته تنازع العرب فيه والفرنسيس

لا تعذلوه إذا ما خان أمته فنصفه صالح والنصف موريس (13).

.

هوامش:

1) جريدة البصائر. ع75. في 11 أفريل 1949. ص: 6

)المدرسة” هي إحدى ثلاث مدارس أنشأتها فرنسا لتخريج القضاة والمترجمين.. (la medersa). وكانت هذه المدارس توجه في تلمسان، وقسنطينة، والمدية ثم نقلت إلى البليدة ثم الجزائر (الثعالبية).

2 3 5 6 7 8 9 10) الشيخ محمد خير الدين: مات الحكيم سعدان، البصائع ع 55، في 8 نوفمبر 1948.

4) جريدة الشهاب. ع 158 في 2 8 1928، ص 20.

❊❊) هو صاحب المقولة الصليبية “الصليب سيحطم الهلال”.

11) فوزي مصمودي: أعلام من بسكرة.. ج 1. ص 84.

12) جريدة البصائر ع 69 في 28 / 2 / 1949 ص 8.

❊❊❊) من الكلمة الفرنسية madame.

13) محمد الأخضر عبد القادر السائحي: محمد الأمين العمودي، م.و.ك. ص 88.

مقالات ذات صلة