الجزائر
"الحكيم" في جزئه الثالث الخميس على قناة "الشروق نيوز":

“سانت إيجيديو”.. وهكذا ألّب الجنرال بتشين زروال على مهري!

فاروق معزوزي
  • 12403
  • 13
ح.م

تستمر ملحمة مهري عبر قناة الشروق نيوز، التي انفردت ببث الفيلم الوثائقي الحصري، عن شيخ السياسيين عبد الحميد مهري “الحكيم والسيستام” وقد توشح الجزء الثالث الذي يبث الليلة على الساعة 21:00 بعنوان “مهري..وعقد روما”.

هذا العدد من الوثائقي سيغوص بالتفصيل المفصل، في قاع سانت إيجيديو ويروي حكايتها من رأسها إلى أخمص قدميها، وهي القصة المكلومة والوثيقة المذمومة، التي ظلت لعنة سياسية تطارد مهري حتى خوّنته ثم أسقطته عشية ما عُرف بالمؤامرة العلمية، وهو الذي سعى من خلال وثيقتها المنبثقة بتاريخ 13 جانفي 1995 والموقعة من لدن زعماء ورموز بحجم أحمد بن بلة أول رئيس للجزائر المستقلة، وايت احمد قائد المنظمة الخاصة “لوس” وعبد الحميد مهري الوزير في أول حكومة مؤقتة للثورة التحريرية.

وهي الوثيقة التي قدمت للجزائريين كترياق سياسي لتجفيف الدماء، والعودة إلى تطبيق الدستور، والرجوع للمسار الانتخابي وتكريس التعددية والتداول على السلطة عبر الديمقراطية، ونبذ العنف السياسي كوسيلة للوصول إلى السلطة آو البقاء فيها، لكن هذه الوثيقة أثارت السلطة الفعلية آنذاك، المستشيطة غضبا وغيضا من أحد بنودها، الذي وصف إلغاء المسار الانتخابي “انقلابا”، مما جعل السلطة الفعلية تشن حرب وبدون هوادة على الموقعين، فلجأت للعلماء نحو الشيخ محمد حماني واستنجدت بالشيخ رمضان البوطي لشيطنتها عقائديا “وشرشحتها” فقهيا، لتهمز إلى “حلفائها” بتخوين الرموز الثلاثة، واصفة إياهم عبر بيان تم تلاوته في النشرة الرئيسة للتلفزيون العمومي، أنهم مجرد خونة وأكلة الجيفة، ذهبوا إلى تدويل القضية واقتسام الحكم مع الفيس المحل، ولجأت كذلك إلى عسكرة المسيرات الجماهيرية، المنددة برفض الصليبية(عقد روما) في محاكمة شعبية، للمكان الذي احتواها، وليس لجوهر الوثيقة ومحتواها.

حوارات السلطة.. التعقيم والتطعيم

رفض مهري كل حوارات السلطة في التسعينات، بجميع أشكالها وبشتى أنواعها، ولم يساير أطروحاتها القائمة على تعنت المندفعين نحو الإقصاء وعبر جنون المغامرين نحو الدماء آنذاك، الذي حسبه يعمق الأزمة ولا يحلها، وهو دليل كاف على عدم جدية السلطة، وحجة دامغة على عدم صدق إرادتها السياسية، وهو المستمسك بالعروة الوثقى “الحوار” إلى حد الثمالة، والحوار حسبه لابد أن يحضره الجميع من اجل الجميع.

وكان الراحل يرى في إقصاء الفيس المحل والأفافاس من الحوارات الرسمية المطعمة بالإقصاء والمعقمة ضد آي تسوية سياسية، تمكن “المغضوب عليهم” من العودة للحياة السياسة، وهو المقتنع أن هذه الحوارات التي تقصي الفيس ببعده الإسلامي والأفافاس ببعده الأمازيغي والأفلان ببعده الوطني، وحسب مهري فإن الجزائر تكمن في هذه الأبعاد الثلاثة، وأن الحوار دونهم مجرد تلهية سياسية وتسلية حزبية عبر الالتفاف والمراوغة، بغية ما أسماه ترحيل الأزمة بدل حلها.

وقد خبر مهري نوايا السلطة آنذاك من خلال جلسة حوار جمعته في مقر رئاسة الجمهورية بمعية الرئيس اليمين زروال الذي تكلم عن حلول سياسية تصب في وعاء رغبة ثلة من “الاستئصالين”، فعندما اخذ مهري الكلمة خاطب زروال بأن الأمور السياسية هي من اختصاص السياسيين، وهي حسرة تأبطها زروال بداخله ليجد الجنرال بتشين منفذا لصدر الرئيس الذي أوغره على مهري، شاحذ سكين العزة وهو يردد لزروال انه أهانك أمام الحضور(السياسية من اختصاص السياسيين) وأنت الرجل الأول في البلد.

وهو ما جعل زروال ينطق بمقولته الشهيرة “يا إما يروح مهري وإما نروح أنا” لتنزل هذه المقولة بردا وسلاما على قلب الجنرال توفيق، الذي استثمر في غضب الرئيس وغليان مستشاره الجنرال بتشين، معطيا الضوء الأخضر للجنرال إسماعيل العماري للتكفل بالمهمة، والتي ترجمها فوريا وميدانيا في فندق سان جورج، الذي كان مسرحا “مميتا” لدفن الجبهة بقيادة مهري،عشية ما عرف بالمؤامرة العلمية.

عقد روما.. لعنة الترياق المستعصي

توقيع على أرضية سانت إيجيدو من طرف، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني عبد الحميد مهري، يعد أكثر المواضيع حساسية في مساره السياسي والنضالي الذي ناهز نصف قرن من الممارسة، بل يعد لعنة طاردته حتى خونته، ثم أسقطته من هرم الأفلان، عندما جعل مهري من الآفلان جبهة تقارع السلطة، وحزبا يضارع السيستام، وهو الذي تحداها سياسيا عندما وقع باسم الجبهة “عكاز السلطة الوحيد ” التي اعتبرت أن مهري تجاوز الخطوط الحمراء، واعدته تمردا مارقا من طرفه، والذي وجب ـ حسبهاـ تنحيته مهما كان الثمن، بعدما أرهقها صعودا بمواقفه وتصريحاته،وأجهدها بأطروحاته الفكرية، عندما رفض الاستئصال واستمسك بالحوار.

ولأول مرة، يغوص الفيلم الوثائقي “الحكيم والسيستام” في قاع موقعة روما، تدقيقا وتوثيقا، شرحا وتفصيلا، من خلال أفواه الشهود، عن حقيقة ذهاب مهري لسانت ايجيديو، وهل كانت بتفويض من اللجنة المركزية؟؟ كونها أعلى هيئة بين مؤتمرين كسلطة تشريعية، وهل سفره كان بتزكية من المكتب السياسي؟؟ كونه السلطة التنفيذية داخل الحزب، أما هل توقيعه كان بمبادرة شخصية كاجتهاد سياسي لحل الأزمة؟؟ لاسيما أن القانون الداخلي للحزب ينص عبر لوائحه، أن أي تحالف خارج الحزب يستوجب عقد مؤتمر، فهل عقد عبد الحميد مهري مؤتمرا؟

المهراويون: ذهب نهارا جهارا

يتحدث المهراويون (أنصار مهري) أن القانون الأساسي يخول للامين العام كقائد للحزب اقتراح الحلول والمشاركة فيها عبر الحوارات واللقاءات، والقانون الداخليـ حسبهم ـ يسمح له الحديث باسم المكتب السياسي واللجنة المركزية، ناهيك عن رمزيته كشخصية تاريخية ووطنية، محكوم عليها بحكم الشرعية البحث عن حلول للحرب الأهلية الناشبة والغارقة إلى الأذقان في الدماء،التي توجب عليه أخلاقيا وأدبيا وسياسيا إنقاذ بلده، يؤكد أنصار الراحل الذين كانوا في المكتب السياسي واللجنة المركزية، أن مهري ذهب بتفويض من اللجنة المركزية وبتزكية من المكتب السياسي، مصرين على أن مهري اكبر من أن يعلمه ما هو دونه، بأدبيات القانون الداخلي، وأبجديات اللوائح ومسلمات العمل السياسي، معللين ذهابه بأنه كان رغبة حزبية وضرورة سياسية وان سفره لروما كان جهارا نهارا، وعبر المطار الدولي وبعلم هيئات رسمية.

الخصوم: ذهب خلسة وخفية

يؤكد خصوم عبد الحميد مهري من المكتب السياسي واللجنة المركزية، أن مهري استغفلهم عندما أوهمهم بان سفره سيكون إلى سويسرا بهدف العلاج على عينيه، ملمحا لا مصرحا بأنه يعتزم لقاء الزعيم آيت احمد في جنيف إن تيسر له ذلك، ليتحول اللقاء حسبهم إلى مشاورات ثم إلى توقيع باسم الجبهة في روما، الذي يعد ـ حسبهم ـ خرقا لقانون ولوائح الحزب، الداعية في حالة تحالف مع أي حزب، لابد من الرجوع للمؤتمر، أو بتفويض من اللجنة المركزية،كونها اكبر هيئة بين مؤتمرين، وبتزكية من المكتب السياسي، كونه السلطة التنفيذية، تسهر على تطبيق قرارات اللجنة المركزية، معتبرين أن ما قام به مهري يتعارض تماما مع صلاحياته كأمين عام لحزب جبهة التحرير، مؤكدين أن سفره لعقد روما كان خلسة وخفية، وهي حسبهم كبوة سياسية وزلة نضالية، وجبت عليهم “لزوما” تصحيحها عبر سحب الثقة منه كونه خان ثقتهم، مما جعلهم يباشرون جمع التوقيعات على المستوى الوطني، لإطاحة به عبر ما عرف بالمؤامرة العلمية الشهيرة.

بلخادم.. الموجود المفقود

يعد عبد العزيز بلخادم الذي كان عضو المكتب السياسي وقتها، ثقة الثقاة لدى مهري، وكان مفترضا أن يلتحق بعبد الحميد مهري للتوقيع على وثيقة روما، لكن عزف على السفر بعد تلقيه حسب الشهود مكالمة حامية الحرارة من جهات في السلطة في ذلك الوقت، تنهره فيها عن السفر وتجزره عن حضور لقاء روما، حتى توحي للجميع بأن مهري وقع على وثيقة روما كعازف منفرد لا يمثل إلا نفسه، فاستجاب عبد العزيز بلخادم لاستغاثة “المقرّرين”، متخلّ عن واجب الوفاء لقائده وملهمه مهري وهو في أحلك الظروف، مبررا عدم التحاقه به في روما، إلى “فدلكة” قصة جواز سفره الذي انتهت صلاحياته ولم يجدد له.

نص روما.. شيطنة المظهر وغبن الجوهر

استحال عقد ندوة الحوار الوطني داخل الجزائر، بعد أن أوعز فاعلون في السلطة خلال التسعينيات بما اعتبر تهديد الزعيمين حسين آيت أحمد وأحمد بن بلة، بالاعتقال لو وطأت قدميهما الجزائر، ناهيك عن منع ممثلي الفيس المحل من دخول التراب الوطني، بحجة أن الحزب محظور، بقرار قضائي لا رجعة فيه، بغية إفشال مسعى الحوار داخل الجزائر، هذا المنع أجبر المجتمعين على “التحاور خارج البلاد”(..)، والذين اتخذوا من مقر الجمعية الخيرية سانت إيجيديو بروما الايطالية، مكان للتشاور والتحاور، واختيار سانت إيجيدو لم يكن اعتباطا ولا جزافا، فهذه الجمعية يعرفها جيدا الرموز الثلاثة حسين ايت احمد واحمد بن بلة وعبد الحميد مهري، لما لها من مساهمة كبيرة أيام الثورة التحريرية عندما آوت قادة الثورة التحريرية وحوت رجالها، وجمعت الأموال لشراء السلاح للمجاهدين.

لكن السلطة وجدت في موقعة سانت ايجيديو، مضربا هشا (حساسية الخارج) فسهل رميه بشتى النعوت والأوصاف، بغية إفشال الحوار وإجهاض محتوى الوثيقة، فاهتمت بالمظهر وصعرت خدها للجوهر، فقامت بشيطنة الكنيسة وعايرت الصليب، متهمة المجتمعين والموقعين بجلب الصليبية للجزائر، واستنجدت برجال الدين، من أمثال الشيخ رمضان البوطي( سوريا) والشيخ احمد حماني (الجزائر) لشيطنة المكان عقائديا وفقهيا، وحاربت الوثيقة في شكلها بأنها عقدت تحت صليب، وتجاهلت مضمونها كوثيقة قدمت للجزائريين كأرضية لحل الأزمة الناشبة في البلاد في التسعينيات.

وهي وثيقة غير ملزمة، بل هي اجتهاد سياسي قابل للنقاش والإثراء، برأي أصحابها، بزيادة أو النقصان، حيث يروي عبد الله جاب الله، المكلف من طرف الموقعين بإيصال وثيقة عقد روما للسلطة، فاتصل بالجنرال بتنشين مستشار الرئيس اليامن زروال طالبا مقابلته، فرد عليه بأنه مرحبا به في قصر الرئاسة بأي صفة كانت، إلا بصفة موفدا من مجموعة عقد روما فانه مرفوض رفضا لا رجعة فيه، لان مضمون الوثيقة أرعب النظام وجزء من المعارضة التي تدعي أنها ديمقراطية، لان الوثيقة رفضت جملة وتفصيلا لأنها تحتوي على بندا أثار حفيظة السيستام، وهو البند الذي اعتبر إلغاء المسار الانتخابي “انقلابا”.

التهم الجاهزة.. التدويل والتخوين

مشاركة مهري في مشاورات سانت إيجيديو الأولى نوفمبر 1994، والتوقيع في الثانية في جانفي 1995،هذا التوقيع كان باسم جبهة التحرير غطاء السلطة الوحيد واليتيم آنذاك، استفز السيستام في العظم، واستنفر قواه وأدواته ووسائله، فقطعت شعرة معاوية بينه الحكيم و السلطة التي قررت استعادة الأفلان من دون مهري مهما كلفه من ثمن، بعدما هرب بالحزب ـ حسبها ـ فأعدت العدة لزحزحته خاصة ان توقيعه يعتبر تدويلا للقضية، فأوعزت بتخوين مهري، فانبرى لذلك كلا من وزير الخارجية أحمد عطاف، كما تكفل التلفزيون الرسمي الجزائري بتعبئة الشعب ضد الموقعين، وصفا إياهم بأنهم أكلة الجيفة في بيان قاس وشديد، تلته عبر نشرة الثامنة، حيث اتهمت السلطة مهري بالذهاب إلى روما لاقتسام الحكم مع الفيس المحل

ليرد مهري عندما طلب حق الرد بخصوص التدويل والتخوين، واستهجن سلوك السلطة اتجاه رموزها عندما خونتهم، محملا إياها مسؤوليتها في تدويل القضية الجزائرية، عندما أوغرت صدر الغرب، بان فيه خطورة أوصولية قادمة من الجزائر من خلال الفيس المحل، وان أمنها واستقرارها مهددين، معتبرا أن هذا التصرف هو التدويل بذاته لأنه يكرس ـ حسبه ـ المواجهة مع أنصار المواجهة، عندما جيشت الشعب عبر مسيرات تندد بالخطر الصليبي القادم للبلاد عبر وثيقة روما.

مقالات ذات صلة