-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

صراعاتنا …الحقائق والأوهام (1)

التهامي مجوري
  • 2091
  • 1
صراعاتنا …الحقائق والأوهام (1)

ما بين الحقيقة والوهم، خيط رقيق لا يكاد يرى، كالخيط الذي بين الشجاعة والتهور، والحكمة والجبن، والاحترام والخوف، والمجاملة والنفاق، والشح والاقتصاد، والتبذير والسخاء، وإلى ما هنالك، من الأشباه التي تحويها تصرفات الإنسان، وهو يتفاعل وينفعل مع حركة الكون سلبا وإيجابا.

ولا يسلم الإنسان من هذه الازدواجيات، حتى وهو يناضل من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل، ويجاهد ويصارع ويغالب، طلبا للفضيلة على حساب الرذيلة، التي يريد تعميمها أهل الباطل.

في هذه الوقفة أردت، أن أعرض لمسيرة الأمة الإسلامية، خلال أكثر من قرن وهي تغالب الغرب، وأفكاره ومعتقداته وطروحاته الاستعمارية، وكيف تحولت تلك الجهود، من جهود حضارية كبيرة وعالية، ترتقي بمستواها إلى مستوى النقاش والحوار الحضاري، الذي كان يحذر الانسانية من انغماسها في الشيئيات، على حساب قيم الإنسان، الذى أضحى اليوم شيئا من أشياء الفكر الإنساني وربًّا يعبد من دون ولا يُعْبد غَيْرُه.. والعجب في هذا الفكر البشري، الذي لا يرى إلها، لهذا الكون غير الإنسان، وهذا الإله الذي هو الإنسان، في نفس الوقت شيء من الأشياء المعرضة لطاحونة الحياة.

انطلقت صراعاتنا في العالم الإسلامي في مواجه الغرب وأفكاره، مع نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، في إطار مغالبة لقوى استعمارية ابتلعت العالم الإسلامي بطروحات استكبارية استعلائية أُطلق عليها يومها مصطلح “الميثاق الاستعماري”.

والمثاق الاستعماري يومها، في ذلك الزمن، يشبه إلى حد بعيد قرارات الأمم المتحدة اليوم، وقرارات مجلس الأمن، وقرارات مجموعة العشرين، التي تلتقي مصالحها على جذور قيمية واحدة.. فكان الرد الإسلامي يومها في نفس المستوى من القوة والطرح والانتصار للقضايا العادلة، فلم يكن هناك خوف أو شعور بالنقص او شعور بالضعف، وإنما كان هناك استعلاء عن الدنيا ودناياها وجنايا الفكر الغربي المادي الذي همش كل ما له علاقة بقيم الإنسان المعنوية، واستبعد كل موروث إنساني له علاقة بالقيم والأخلاق والروح والدين. فكانت هناك قوة معنوية وروح مستعلية وعقل ناضج، مدرك لجذور المعركة الحضارية، التي كانت بداياتها مع سقوط غرناطة وأفول عصر الموحدين، على حد تعبير مالك بن نبي رحمه الله.  

فالحركة الوهابية مثلا، عندما نشأت في جزيرة العرب، وقامت بما قامت به من محاربة للمظاهر الشركية والدعوة للتوحيد الخالص، والعودة به إلى أصوله الصافية، التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم، إنما كانت تتحسس بذور انطلاقة حضارية، تعيد الأمة إلى مجدها الأول، انطلاقا من رصيد الأمة العقدي الاجتماعي الثقافي، أي بتوحيد الله، وتنقية هذا التوحيد، مما علق به من بدع ومنكرات وشركيات، ألصقها به الجهل والتخلف، وما شاع من خرافات في بلاد المسلمين.

وحركة الإصلاح التي أسس لها الشيخان جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده، التي اعتمدت إعادة صياغة الأمة من جديد؛ لأن هذه الحركة شعرت ان الأمة فقدت جوهرها، وهو التفاعل الإيجابي مع الطبيعة، وفق قانون التاريخ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم، وكما فعلت سائر الأمم التي بنت مجدها بيدها.

فالأمة رغم تدينها وتعلقها بالدين في حياتها، هي متخلفة عن ركب الحضارة، ولم يغنها تعلقها بالدين المتوارث في شيء، بسبب ما لحق به الكثير من البدع والخرافات، التي أضحت من موانع الفهم للوحي والواقع والتفاعل معهما.

فقد بلور الشيخ عبده فكرة الإصلاح وحوصلها، في إصلاح التربية والتعليم، وذلك بعدما انفصل عن أستاذه الذي غلب عليه الطابع السياسي الثوري.

والشيخ مصطفى صبري وهو آخر شيوخ الإسلام في الخلافة العثمانية، وهو وحده مدرسة في مقاومة الفكر الغربي، فقد هاجر إلى القاهرة من اسطمبول قبيل سقوط الخلافة، ونذر بقية أيامه دفاعا عن قيم الإسلام وأصوله وفروعه، وحاجج كل الطروحات التي كانت تطرح يومها، المتعلقة بجديد الفلسفة والفكر الديني والسياسة والأخلاق والمرأة والمعتقدات..إلخ، ولم يكبر في عينه أحد من فطاحلة الغربيين امثال ديكارت وكانط ومالتوس ودوركايم ومن تبعهم من المنبهرين بهم في العالم الإسلامي.

وكذلك الحركة الثورية الاستقلالية، التي هي امتداد للخط الذي بذر بذوره جمال الدين الأفغاني، فقد انبثقت عنها الكثير من الحركات الثورية، التي لم “تعقِّدها” الادعاءات الغربية “المتحضرة”، وإنما شقت طريقها على الأرض باستقلالية تامة، لا تعترف إلا بالحقيقة العلمية والتاريخية والثقافية والدينية مرجعا لها، في نيلها حقها وانتزاعه انتزاعا، فلم يكن الفقر مانعا من خوض المعارك ولا الضعف ولا التخلف مانعان من التفاوض، وإنما كانت الرؤية واضحة في المفاصلة مع الغرب، فكرا ونهجا.

يحكى عن المجاهد ساعد دحلب انه في مفاوضات إيفيان لم يفهم كلمة فرنسية وربما كانت في صالحه، فلم يوافق عليها، فقال له لوي جوكس –أظنه الوسيط بين الوفدين الجزائري والفرنسي- إن معناها كذا، فلم يقتنع ساعد، ولما ألح عليه جوكس وقال له إنها فرنسية وصحيحة، فقال له ساعد “ما لم أفهمه أنا ليس فرنسية”، وأغلق الباب. يا لها من قوة.. لم يفهم الكلمة ولكن منطقه رفض أن يوافق على كلمة لم يفهمها على أنها كلمة في صالح الثورة.

هذا المستوى الفكري الاستعلائي عن الطروحات الاستعمارية الغازية، انتج حركات تحررية وطنية ثورية وإصلاحية، تلتقي في مجموعها على قاعدة أساسية عريضة هي، أن الغرب الإستعماري، دخيل على بلادنا بكل ما فيه وما جاء به، ومن ثم فهو مرفوض جملة وتفصيلا، بمن فيهم المغرمين بأشكاله الحضارية، والنموذج الحي لذلك، في الحركة الوطنية الجزائرية، التي التقت فصائلها المتنوعة والمتعددة، على ما بينها من تباين، على مبدأ تحرير البلاد وطرد الاستعمار، كقضية غير قابلة للنقاش.. ولم الخلاف بينهم عائقا في تحقيق هذا المكسب، وكذلك دور الإخوان المسلمين خلال سنوات الأربعينيات والخمسينيات في مصر، فقد كان دورا وحدويا مع غيرها من التيارات الوطنية الأخرى، حيث تذكر شهادات من الضباط الأحرار وهم الفصيل الأساس في الثورة المصرية أن دور الإخوان في ذلك هاما، ودورهم أيضا، في سوريا خلال سنوات الخمسينيات والستينيات، وكذلك في العراق..إلخ.

لقد كان الصراع في تلك المرحلة في أعلى مستوياته؛ لأنه كان طرحا في مستوى الحدث.. الشرق بجميع ثقافاته –وعلى رأسها الثقافة الإسلامية-، في مواجهة الغرب، ولكن هذا المستوى بكل أسف لم يستمر طويلا، ولم يبق منه إلا مقولات لرجل يسمى مالك بن نبي رحمه الله، الذي واصل النضال على الجبهة الفكرية وبنفس الأسلوب وعلى المنوال ولم يمل تحذير قوى الحراك الوطني والإسلامي من انزلاقات التدني الفكري والثقافي في مواجهة الغرب؛ لأن الغرب إذا اندحر، فإن ذلك لا يعني أنه انهزم، لأنه لا يعتمد في مناهجه القوة والعدد والعدة فحسب، وإنما يوظف كل شيء في سبيل البقاء، وبقاء المصالح وأولها تطويع المعرفة لخدمة قضاياه الاستعمارية السافلة..، فهو متفنن في إبداع آليات الصراع واختيار ساحات المعارك وشخوصها وكيفية صناعة الخصوم وطرق التغلب عليهم…، وقد وضع كتابه “الفكرة الأفروآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ”، كبرنامج لمواجهة الغرب، وكيف يمكن للشعوب الإفريقية الآسيوية أن تتغلب على الاستعمار الغربي، ولكن القوم كانوا منشغلين بالتفكير في الاستيلاء على السلطة أكثر من التفكير في مستقبل علاقة الغرب بالشرق بعد تصفية الاستعمار بمفهومه التقليدي.

يتبع

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • redouane algerien

    baraka allaho fik 3la had elmawdou3 wa 3la had eltarh