-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

صلاة الاستسقاء محلّ جدل!

نبيل عاشور
  • 1332
  • 1
صلاة الاستسقاء محلّ جدل!

لم يسبق للجزائريين أن تجادلوا في شأن صلاة الاستسقاء مثلما هو عليه اليوم، فالجفاف ظاهرة طبيعية عرفتها كل الأزمة والأمكنة في هذا العالم، والتعامل معها كان حسب عقيدة كل مجتمع مهدّد بالقحط والمجاعة، فكانت صلاة الاستسقاء في المجتمعات المسلمة توحّد القلوب وتصوّبها في اتجاه واحد وهو التضرّع إلى الله وطلب الغوث، غير أنه في السنوات الأخيرة أصبحت صلاة الاستسقاء محلّ جدل بين المسلمين أنفسهم، فلم يعد الجفافُ خطرا يستشعره مجتمعٌ تعوّد على تأمين حاجياته من ريع البترول، وأصبحت البطون الممتلئة بالواردات تفرز تفكيرا متمرّدا على ما يُفترض أنه من المسلّمات، وتحوّلت صلاة الاستسقاء في نظره إلى حيلة تنسج خيوطها وزارةُ الشؤون الدينية بالتنسيق مع مصالح الأرصاد الجوية لتستثمر فيها السلطة، فما كان نكتة في الماضي أصبح اليوم قناعة لدى أجيال لم تعرف في مسارها الدراسي شيئا اسمه صلاة الاستسقاء، والنتيجة لا المساجد امتلأت بالمستغيثين ولا تنبُّؤات الأقمار الصناعية تحقّقت بهطول الأمطار، وأصبح الجدل والتجاذب بين الجزائريين هو السيل الوحيد الذي يجرف أسس التناسق الاجتماعي والعقائدي، فهل هي العولمة فعلت فعلتها في ثقافتنا المتوارثة إلى هذا الحد؟

لا بد من الاعتراف بأن السموم التي يتم بثها بمنهجية مدروسة في أوساط الأجيال الصاعدة أتت بثمار مرّة، والدليل أن صلاة الاستسقاء التي لم تكن تسعها المساجد فتُصلى في الساحات الشاسعة أصبحت تقام بأعدادٍ محدودة، وتتقاذفها الألسنُ بالهمز واللّمز، وأصبح المسلم يهجرها بمجرد الحديث عن احتمال هطول الأمطار حسب ما رصدته الأقمار الصناعية، أو يهجرها لأنها بُرمجت في يوم السبت وكأن هذا اليوم ليس للمسلمين فيه نصيب!

أمام هذا الجدل القائم حول صلاة الاستسقاء، هناك جيلٌ لا يزال على قيد الحياة كان شاهدا على طريقة ممارسة هذه الشعيرة في زمن الانسجام المجتمعي، جيلٌ اختار الصمت لأنه ينتمي إلى زمن ما قبل العولمة لا يُحسن إدارة الصراع عبر شبكات التواصل الاجتماعي، اختار الصّمت لأنه أحسّ أنَّ التحولات التي عرفها المجتمع الجزائري كانت عميقة إلى درجة أنه لن يصدِّق أحدٌ شهادته على العصر، هذا الجيل الذي عاش زمن الاستعمار وما بعده يدرك جيّدا أن السخرية والاستهزاء ستطالانه من كلا الطرفين المتصارعين إذا حدّثهم عن زمن جمع المعونات للفقراء من المنازل قبل أداء الصلاة، أو إقامة “تويزة” وذبح عجل وتسهيمه على الجميع، جيل لم تخذله الأمطار يوما.. ولهذا اختار الصمت في اطمئنان.

إن إخضاع هذه الطقوس إلى سياقها الزماني والمكاني يمكن تحييد الكثير من الشكليات (الاستغاثة بالأولياء الصالحين مثلا) لاستخراج الجوهر الذي فتح أبواب السماء لهطول السيول، فالجوهر الأول هو لجوء الناس إلى الله وتقديره حقّ قدره بأنه هو القويُّ المغيث، أما الجوهرُ الثاني فهو لجوء الناس إلى التضامن مع بعضهم البعض وتطهير القلوب عبر طريقة “التويزة” في ذلك العصر، كأنْ يذبحوا عجلا ويُسهمونه على جميع أفراد القرية بالتساوي، وكنت أتمنى من وزارة الشؤون الدينية أن تقوم بتحيين هذه الخصلة الايجابية وترجمتِها إلى لغة العصر، ثم إحيائِها تزامنا مع صلاة الاستسقاء كوجهٍ من أوجه إحياء التراث.

صحيحٌ أن النزوح الريفي طغى على التجمُّعات السكانية الكبرى فلا يسمح الوضع بعودة ثقافة “التويزة” لغياب شروط الصحة والنظافة على الأقل، لكن الوزارة تمتلك آلية “مجلس سبل الخيرات” في كل مسجد، يمكن تفعيلها بقوة تزامنا مع صلاة الاستسقاء خصوصا، كأن تفتح الباب للمواطنين بجلب مواد التموين بما فيها اللحم من عند الجزار إلى المسجد في الصبيحة قبل الصلاة (اللحم بديل عن التويزة)، ويتم توزيعُها مباشرة بعد الانتهاء من صلاة الاستسقاء على الفقراء والمعوزين واليتامى، فالصدقة في الإسلام برهان، وهذا ما كان يفعله أجدادُنا ويعتبرونها إحدى أسرار الاستجابة وهطول الأمطار.

الشقّ الثاني المتعلق بموضوع صلاة الاستسقاء هو الجانب الفكري؛ ففي مثل هذه الأوقات يخرج أصحاب “المدارس العقلية” يصنعون المفارقات من العدم، فيخلقون التناقضات بين العلم والعقيدة وكأنهما بديلان لا يجتمعان في ذات إنسان واحد، فقوانين الفيزياء حسبهم لا يمكن تغييرُها بالدعاء والابتهال، فالماء يخضع لدورة كاملة تبدأ من التبخُّر وتنتهي بالتساقط وفقط، لكن لماذا تختلّ هذه الدورة رغم بقاء الشروط نفسها وثبات الفصول الأربعة للسنة، فيرجعونها إلى أسباب متعلقة بالتلوث البيئي وتغيّرات المناخ، لكنهم لا يجيبون: لماذا كان يحدث الجفاف قبل أن يحترق أولُ برميل للنفط؟.

ثم بعدها يدخلون في بعض التفاصيل منتهكين حرمة الدين، كأن يتساءل أحدُهم قائلا: ها قد صلّيتم ثلاث مرات هذه السنة ولم ينزل المطر.. ويطرح السؤال السمّ: لماذا؟ ويوجِّهه إلى جيل تم تحجيم مادة التربية الإسلامية في منظومته التربوية إلى الحدّ الرمزي.

وآخرون لا يتحدثون عن ضرورة الاهتمام ببناء السدود وتطوير البنى التحتية للري الفلاحي إلا عندما يبدأ الحديث عن صلاة الاستسقاء، حتى يظن المستمع أن وزارة الشؤون الدينية هي وزارة الرّي اختارت الصلاة كبديل عن بناء السدود، ويبدأ النقاش يدور في حلقة مفرغة لا يطول الأمر حتى يتحوّل إلى نقاش بيزنطي بين العطشى.. ودائما يتم التركيز على شعيرة صلاة الاستسقاء وكأنها إحدى أدوات استغفال وتخدير المسلمين.

إن صلاة الاستسقاء لم تكن في يوم من الأيام ضمن بنود العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، ومن ثمّة فإنّ مواجهة العطش كأزمة محتملة الوقوع تدخل ضمن البرامج الاقتصادية والسياسية للبلدان، ولهذا فالنقاش المفيد يكون حول هذه البرامج والتركيز عليها وإعطاءها الأولوية كما يحدث في الأمم المتحضرة، أما فتح نقاشات دينية والنبش في تفاصيلها فهي من خصائص الأمم التي لا تمتلك مشاريع نهضة.

لا بدّ من الاعتراف بأن السموم التي يتم بثها بمنهجية مدروسة في أوساط الأجيال الصاعدة أتت بثمار مرّة، والدليل على ذلك أن صلاة الاستسقاء التي لم تكن تسعها المساجد فتُصلى في الساحات الشاسعة أصبحت تقام بأعدادٍ محدودة، وأضحت غريبة في ديارها تتقاذفها الألسنُ بالهمز واللّمز، وأصبح المسلم يهجرها بمجرد الحديث عن احتمال هطول الأمطار حسب ما رصدته الأقمار الصناعية، أو يهجرها لأنها بُرمجت في يوم السبت وكأن هذا اليوم ليس للمسلمين فيه نصيب!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • amremmu

    جزائري 2022 يعلم علم اليقين بأن سقوط الأمطار تكون بعد أن تتوفر لها الشروط والظروف المناخية المواتية . نقطة نهاية