-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

علماء السلاطين.. شهود الزور والتدليس

خير الدين هني
  • 866
  • 0
علماء السلاطين.. شهود الزور والتدليس

يقول المثل الشعبي عندنا في الجزائر: “احذر أن تُعرف، وإذا عُرفت فاحذر أن تُكشف!” ويقول المثل الآخر: “النار ما تاكلش ميات جاهل حتى تَكُلْ ميات عالم! “، والمعنى المتوخى ليس المراد منه علماء الورع والزهد والتقوى والخوف من الله، والاعتدال في القول وإتّباع سبل الحق والعدل في الفتوى والنصح، ولكن المعنيين في المثل هم علماء المصالح ممن تحكمهم غرائز الميل إلى إشباع رغبات النفس وما تجنح إليه من النزوع إلى حب المال، والمناصب والكراسي الوثيرة والوجاهة، ونيل الحظوة والرضا والرضوان من أوليائهم، ممن يملكون أدوات الحل والعقد التي أتاحتها لهم المناصب العليا التي وصلوا إليها بالوراثة أو الانتخاب أو التعيين أو الانقلاب.
طاعة وليّ الأمر أمرٌ مفصول فيه شرعا، ولا ينازع فيها منازعٌ إلا من أُشرِب في قلبه العصيان والتمرد على التشريع السياسي الإسلامي، ولكن هذه الطاعة مقيّدة بشروط وضوابط وضع أسسَها الأولى أبو بكر الصديق (ض) حينما بويع للخلافة بعد حادثة السقيفة، ارتقى المنبر واستهل خطبته إلى الصحابة بقوله: “أما بعد أيها الناس فإني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قومٌ الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”.
هذه هي الضوابط الشرعية التي وضعها أول خليفة في الإسلام، لتكون منهجا قويما توضع عليها القواعد الأصولية في التشريع السياسي للحكم، وهي القواعد التي رسم خط السير عليها هذا الخليفة الصالح، لإتّباع أثر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهو المنهج المستقيم الذي شرّعه هذا الخليفة الراشد للحكام والمسلمين ممن يأتون بعده، كيما تنعقد على أسسها علاقة العقد الاجتماعي والسياسي الذي يربط الصلة بين الحاكم والمحكومين، بطرقها المشروعة من غير تأويل زائغ أو بغي أو حيف أو جور أو شطط أو مخالفة أو مناكفة أو منازعة، أو خروج عن أصولها ومناهجها وأهدافها ومقاصدها، ومن أراد غير ذلك زلّت به القدم، نحو الخروج عن طريق الحق الذي رسمه القرآن والسنة.
وأبو بكر الصديق كان ملازما لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحضر والسفر، طوال مدة التبليغ ولم يفارقه قطّ، ولذلك فهم التشريع الإسلامي على حقيقته غضّا طريّا وكما يجب أن يُفهم، وليس كما يريد أن يفهمه المؤوِّلون والقاسطون والناكثون وأهل الزيغ والهوى، من المهووسين بشهوة الحكم وتابعتهم ممن يؤوِّلون لهم النصوص الشرعية، بما يشتهونه من فتاوى التزوير والتلفيق والتدليس وقلب الحقائق.

المقاومة لم تقم بجهاد الطلب وإنما بجهاد الدفع، وهو الجهاد الذي يفرضه الواجب الشرعي، حين يقع اعتداءٌ على الأمة أو المجتمع أوالدين أو الوطن أو الأفراد، وهذا الجهاد يزول حكمه بزوال الاعتداء وخروج العدو من بلاد المسلمين، والكيان اعتدى على أرض فلسطين كاملة وهو يطالب الفلسطينيين بالهجرة من أرضهم، فماذا يريد هؤلاء العلماء المزوِّرون من هذا الشعب المقهور؟ وهل يرضون هم باحتلال أراضيهم وخروجهم منها ظلما وعدوانا؟

وقد تناول ابن باديس -رحمه الله تعالى- هذه الخطبة في شرح مفصّل ودقيق، أبان فيه المضمون الحقيقي لأغراضها ومقاصدها ليس هذا محل الإفاضة فيه، لأنه يُخرجنا عن الغاية التي رسمناها لهذا المقال، إذ بيّن أن أبا بكر الصديق كان أول خليفة وضع الأسس الدستورية والقانونية لمشروعية الحكم، وقواعد الرقابة والنصح للحاكم، وأن طاعة الحاكم مقيّدة بشرط التزامه بضوابط الشرع، عقيدة وطاعة وأخلاقا وانضباطا وولاء، وحرصا على مصالح الدولة والأمة، فإن خرج عن هذه القواعد فقد شرط الطاعة والولاء والوفاء بالعهد.
وعلماء الوعظ السياسي وأئمة الإفتاء بحسب الطلب، في أيامنا هذه ممن ينتمون إلى مدارس التبرير والتسويغ والتدليس وتأليه الحكام، والتماس الأعذار لهم من غير مسوِّغ شرعي، يعرفون هذه الخطبة جيدا وغيرها من ظروف المناسبة التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يحدّث أصحابه بتلك الأحاديث التي توجب الطاعة لوليِّ الأمر ولو أخلّ بأصول الشرع وقواعده، ولكن شهوة التقرُّب من ولاة أمورهم ونيل رضاهم، جعلهم يلوون أعناق النصوص أو يؤوِّلونها على غير وجهها الصحيح، لينالوا القربى والزلفى والمال والمنصب والجاه والشهرة.
وهم -في كل الأحوال ومهما اجتهدوا- لا يعرفون محتوى النصوص ومقاصدَها، كما عرفها أبو بكر والصحابة، حينما خطب فيهم ودعاهم إلى معصيته وخلعه إن عصى الله تعالى، ولم يكن -رضي الله عنه- يجهل هو ومجموعُ الصحابة الأحاديث التي تأمر بطاعة وليّ الأمر في كل الأحوال، ولو ظلموا وتجبروا وبغوا ونشروا الفساد بالسرقة والرشوة والمحاباة وتولية شرار الناس على الأمة، وزنوا ومارسوا الفواحش، ونشروا الإلحاد والفسق والفجور والرذيلة في أوساط شعوبهم، كما قال أحدهم من المزورين والمدلسين، وهؤلاء الصحابة هم من نقلوا إلينا سنة رسول الله، وهم من يعرفون دقائق معانيها استنادا إلى مقاصد القرآن الكريم، أحسن من هؤلاء المقلدين من أصحاب مدرسة الوعظ السياسي ودهاقنة الإفتاء.
والقرآن الكريم إنما نزل ليحارب الكفر والإلحاد والظلم، والجور والفسق والفجور والرذيلة والفساد وعبادة الأشخاص وقول الزور، والسنة الصحيحة ترجمت ذلك بالقول والفعل والتقرير، والنبي صلى الله عليه وسلم حرَّم على أهل البغي الخروج أو الانقلاب على الحاكم الشرعي الصالح العادل، وهم الذين يحبُّون الفوضى والشغب والقلاقل، لقوله “من أتاكم وأمرُكُم جَمِيْعٌ على رجل واحد، يُريد أن يَشُقَّ عَصَاكُم، أو يُفَرِّقَ جَمَاَعَتَكُم، فاقتُلُوهُ”. (رواه مسلم)، أما الحاكم الظالم المستبد، فيحرم على أهل السنة القتال تحت رايته، على من يخرج عليه يطالب بحقه، قال ابن حجر “: إلا أن الجميع يحرمون القتال مع أئمة الجور ضد من خرج عليهم من آهل الحق”، ويرون أن من خرج على الحاكم الظالم الذي يريد أن يسلب حقه معذور، إذ قال بن حجر:” وأما من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله، فهو معذور ولا يحل قتاله وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته”.
والمنصفون من العلماء المحايدين اليوم، يرون وجوب إعادة النظر في بعض التخريجات الفقهية القديمة، التي تلت وقعة الحرة وهي الوقعة التي أمر فيها يزيد بن معاوية باقتحام حرمة المدينة واستباحة كل شيء فيها، فقتل فيها خلقا كثيرا من أعلام الصحابة وأبنائهم، وهدمت الدور والمنازل وخربت الحقول وانتهكت حرمات المسلمات، لأن الناس رفضوا بيعة يزيد هذا لعدم كفايته الدينية والأخلاقية، فأفتى علماء ذلك العصر-ربما تحت التهديد- بوجوب الصبر على الحاكم الظالم الفاسق لعل الله يغيّر الحال، حتى تتحقق قاعدة “أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشرّ منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه”.
ولاريب أن المستبدين من الحكام عبر العصور، هم من دعوا إلى ترويج مثل هذه المقولات، كيما يضمنون الاستقرار لحكمهم وسلطانهم، ولكن المتأخرين خالفوا هذه القاعدة حينما جرّبوا استفحال الظلم والاستبداد والفساد، على أيدي أبناء الخلفاء والأمراء والسلاطين وأحفادهم، ومنهم ابن حجر الذي أوردنا قوله في شأن الحكّام الظالمين آنفا، والذي يمكن دراسته وتحليله بإمعان أن الحاكم المشكوك في عقيدته ودينه، ولكنه حاكم عادل مقسط ولا يحارب الإسلام وفضائل الأخلاق، هو أفضل بكثير من الحاكم الذي يتظاهر بالإسلام -تقية- وينشر الكفر والإلحاد والرذيلة والفساد الأخلاقي ومظاهر المثلية في أوساط شعبه، لأن هذه الأعمال الشنيعة إن استمرت عقودا، فستُخرج الأجيال الصاعدة من الدين كليا، وسيعود شعبُه إلى الكفر والجحود ومحاربة الله ورسوله، ولكن علماء الوعظ السياسي من المزيفين والمزورين والمدلسين، لا يرون هذه الحقيقة ساطعة أمام أعينهم، لأن الله رَانَ على قلوبهم ففقدوا رشدهم وصوابهم، واشتروا دنيا غيرهم بآخرتهم، فكانوا من الذين قال فيهم الحق سبحانه: “قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”.
وقد تجاوز هؤلاء العلماء المدلّسون، فتحوَّلوا إلى أعداء لإخوانهم المجاهدين المستضعفين في غزة، ممن قهرهم ظلم عصابات الكيان ودول الشر الغربي، فجعلوا خروجهم غير شرعي لأنهم لم يقاتلوا تحت راية حاكم قائم، والحال أن رجال السلطة الفلسطينية يعملون شرطة حراسة لصالح عصابة الكيان، يقمعون شعبهم بالسجن والضرب والتنكيل، فلا يسمحون لهم بالمظاهرات والاحتجاجات ضد عدوان الكيان الغاصب، وحكامهم المطبِّعون باعوا الدين والقومية والشرف، وأصبحوا يظاهرون الصهاينة والمتصهينين الغربيين، وأعطوا ولاءهم الأعمى لأعداء الأمة، وأصبحوا يضيّقون على الجزائر و يؤلّبون عليها دول الجوار، لأنها تناصر القضية الفلسطينية حكومة وشعبا.
والمقاومة لم تقم بجهاد الطلب وإنما بجهاد الدفع، وهو الجهاد الذي يفرضه الواجب الشرعي، حين يقع اعتداءٌ على الأمة أو المجتمع أوالدين أو الوطن أو الأفراد، وهذا الجهاد يزول حكمه بزوال الاعتداء وخروج العدو من بلاد المسلمين، والكيان اعتدى على أرض فلسطين كاملة وهو يطالب الفلسطينيين بالهجرة من أرضهم، فماذا يريد هؤلاء العلماء المزوِّرون من هذا الشعب المقهور؟ وهل يرضون هم باحتلال أراضيهم وخروجهم منها ظلما وعدوانا؟
أما جهاد الطلب فأصبح اليوم بوسائل المحاضرة والكتابة والخطابة والترويج الإعلامي، لأنه أنسبُ للعصر، وجهاد الطلب هو الذي تسعى فيه الدولة الإسلامية المستقرة، بنشر الإسلام بين الشعوب غير المسلمة، بوسائل الدعوة والقتال حينما يمنع الظالمون شعوبهم من الاستماع إلى الدعوة، وهذا النوع كان في عصر النبي والخلفاء والسلاطين والأمراء في العصور الوسطى، وانتهى زمنُه اليوم لتغير الظروف والأحوال السياسية والمتغيرات الدولية، وهذا هو الذي يخافه الغرب والشرق ويحسبون له حسابه، إن أصبح المسلمون قوة عظمى ضاربة في الأرض.
وفي الختام نقول لهؤلاء الشيوخ المدلسين: اتقوا الله وخافوا غضبه وانتقامه، لأنه يمهل ولا يهمل، وغدا لناظره قريب!

مقالات ذات صلة
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!