-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عندما تنفخ فرنسا البارد بعد الحار

عمار يزلي
  • 1196
  • 0
عندما تنفخ فرنسا البارد بعد الحار

التحولات التي طرأت على العلاقات الفرنسية الجزائرية منذ نهاية الانتخابات الرئاسية الفرنسية متبوعة بالانتخابات المحلية، يمكن إيعازها إلى أكثر من سبب ودافع، غير أن أهمها يكمن في نتائج الانتخابات بشكل عام: الرئاسية والبرلمانية.

الرئيس الفرنسي الذي وضع نفسه في يمين الوسط، وجد نفسه يغازل قبل الرئاسيات قاعدة اليمين، وحتى اليمين المتطرف، ومن أجل إضعاف هذا النمو اليمني في هذا البلد الذي كان إلى الأمس القريب يتأرجح بين الجمهوريين الديغوليين واليسار الاشتراكي.

بروز اليمين في فرنسا بعد انحسار اليسار وهزيمته منذ عقدين تقريبا، جعل اليمين الوسط يحلب من حلمتين: اليمين ويمين اليمين، من جهة وحلمة ثدي اليسار ويسار اليسار من جهة ثانية، لكن غالبا ما كان يبحث عن موقع تدفق حليب في إناء بما فيه يرشح: إناء الجمهوريين الديغوليين، الذين لم يكونوا كلهم على سَواء في قبول هذا التقارب، خاصة مع طغمة النيو ليبيرالية المحلية التي نمت باضطراد مع نمو هذا التوجه العام في العالم ضمن العولمة الأمريكية.

منذ التسعينات إلى اليوم، عرفت العلاقات الجزائرية الفرنسية حالات تشنج ثم حالات تطبيع فحالات إصلاح العطب التي نمت مع نمو ميول السياسة الداخلية والخارجية الفرنسية ميل اليمين هروبا من اليسار أمام ناخبين سئموا منه وعاقبوه أشد العقاب.

كان على ماكرون أن يحاول سد العجز لسنوات في منظومة الحكم المترهِّلة في فرنسا والتي هي على أعتاب جمهورية سادسة يحاول أن يؤخِّرها بتدارك أخطائه القائلة المتمثلة في الميل يمينا، تماشيا مع النهج الذي يتخذه الشارع عموما إزاء مشكلات فرنسا المزمنة: البطالة، الغلاء، الهجرة، الاندماج…

رهانُ ماكرون قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا، أوضحت له كيف أنه كاد أن يفقد فوزه للمرة الثانية والأخيرة بالضربة القاضية، غير أنه فاز بالنقاط.. ونقاط قليلة قياسا بما كان يطمح، فلا هو أكل من صحن اليمين حتى الشبع، ولا هو أغرف من وجبة اليسار حتى الثمالة، وكاد الاثنان أن يرمياه على قارعة الطريق. فهمَ ماكرون في الانتخابات البرلمانية التي سبقت الرئاسيات، أنه فقد أمله في استعطاف اليسار أيضا، فظهر اليسار غير التقليدي مع ميلونشون أكثر خطورة عليه في البرلمان بعد أن صار التعايش مستقبلا مع اليسار ويتقارب معه أكثر خوفا من تنامي وسطوة اليمين التي نمت هي الأخرى تحت قبة في البرلمان مما يجعل سلطته الرئاسية صعبة واتخاذ قرارات والتصويت على مشاريع القوانين أصعب، تتطلب تنازلاتٍ ووسيطة كان يتمناها أن لا تكون.

خسر ماكرون الرهان على تقليص شعبية اليمين المتنامية وأيضا يسارية ميلانشون الانتقامية، وهاهو الآن يبحث عن مخرج جديد لحزبه، الذي عاد وغيَّر من جلد حزبه أملا في إعادة نفخ روح ثانية فيه، من جرَّاء وسطية انتهازية لم تضعه لا في العير ولا في النفير وأبعدت عنه كثيرا أصوات المهاجرين وخاصة الجالية الجزائرية والمغاربية عموما، لهذا نراه مؤخرا بعد الانتخابات وقد تغيَّرت لهجتُه وتبدَّل خطابُه ولان لسانه ودان لسان حاله للسان فأله، وهاهو وزير داخليته “دار مانان” الآن، يعيد النظر فيما قاله زمان، ويطلي الفرث بالعسل محاولا تخفيف حدة أزمة التأشيرات التي نجمت عن طلب فرنسا ترحيل عدد من رعاياهم غير المرغوبين فيهم على التراب الفرنسي. هذا الملف الذي كان السبب الرئيسي في تفاقم الأزمة مع الجزائر خاصة أزمة التأشيرات التي انخفضت إلى النصف ولا تزال قائمة إلى اليوم؛ إذ أن كل الطلبات المرفوضة إلى غاية الساعة، غالبا ما تكون مؤشرا عليها بأن الطلب رُفض بسبب “عدم وجود ما يكفي من الأدلة على أن هدف الزيارة هو سياحي”.. عذرٌ أقبح من ذنب، عذر يوضِّح أن التأشيرات تُرفض بدعاوى كيدية منطلقة من تهم مسبقة: أن الجزائري إنما يطلب الفيزا، لا لكي يسيح بل لكي يبقى ويستريح”.. يُسمى هذا في القانون بالقرينة وقلب للقاعدة القانونية التي تقول”المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته”، إذ أن الجزائري والمغاربي عموما، صار هنا متهما حتى تثبت براءته، وبما أن قرينة البيّنة على من ادّعى، فعوض أن تثبت الإدانة، تعمد فرنسا إلى منع المنح بدواعي الشك.

بداية القول من طرف وزير الداخلية الفرنسية إن الأمور تغيرت وإن الضغط عبر ملف التأشيرات لم يؤتَ أكُله، يفيد بأن هذا الملف سيمكن تجاوزه بما في ذلك ملف الرعايا غير المرغوب فيهم على التراب الفرنسي. هذا الملف كانت الجزائر سباقة إلى رفضه، وعلى لسان رئيس الجمهورية شخصيًّا بأن أنكرت حجم العدد من هؤلاء ولم تعترف إلا ببضع عشرات منهم فقط موجودين على القوائم القنصلية.

إذن، وبعدما صُدم، سيكون على الطرف الفرنسي في ظل أزمة ثقة قائمة من قبل بشأن الذاكرة، وفي ظل أزمة وقود وطاقة وغلاء قائم وقادم وشتاء حار وصيف من نار، سيكون على فرنسا أن تستجير بالرمضاء من النار، بعدما صار ماكرون في حل من عقد الانتخابات التي لن يخسرها ولن يربحها بعد فوز بكرسي رئاسي للمرة الثانية والأخيرة، راحة يمكن أن يستغلها لرأب الصدع في حزبه مستقبلا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!