الجزائر
الشيخ الدكتور عبد الحليم قابة لـ "الشروق":

فوضى الإفتاء أثّرت سلباً على دين الناس وجاءت بنتائج عكسية

حسن خليفة
  • 2464
  • 7
أرشيف
عبد الحليم قابة

الشيخ الدكتور عبد الحليم قابة من العلماء العاملين والدعاة النشطين، والأكاديميين المميزين الذين يبذلون جهودا طيبة في مجال العمل الثقافي والديني، وفي مجال الدعوة والإصلاح، على أكثر من مستوى، وفي أكثر من ميدان: الإفتاء، والإرشاد والتوجيه، والكتابة والتدوين بإصدار الكتب والكتيبات والرسائل العلمية، والأحاديث التلفزيونية والاستشارات الفقهية، فضلا عن التواصل المميز مع إخوته من العلماء والدعاة بشكل مستمر ومنتظم، وهو عضو في الهيئة الاستشارية العلمية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. حاورناه في قضايا ذات صلة بموضوع الإصلاح والدعوة… وقد أجابنا ـ مشكورا مأجورا ـ وإلى نصّ الحوار.

نودّ أولا أن نقدم الشيخ عبد الحليـم في هذه البطاقة الموجزة ـ عن سيرته العلمية والمعرفيةـ فمن هو الشيخ عبد الحليم قابة؟

عبد الحليم بن محمد الهادي بن علي قابة، من مواليد01 سبتمبر 1962 بالشّريعة ولاية تبسّة، حائزٌ على دكتوراه لغة ودراسات قرآنية ثم شهادة التّأهيل الجامعيّ، أستاذ مشارك في جامعة أم القرى بمكة المكرّمة، لديّ عدّة ديبلومات وشهادات وكذا إجازات في قراءة وإقراء القرآن الكريم ومجموعة إجازات في العلوم الشرعية وتزكيات من علماء دمشق، اشتغلت إماما خطيبا في مسجد الفرقان بالجزائر العاصمة سنوات عديدة، وأستاذ علوم إسلامية بعدّة جامعات بالوطن، ولي عديد المؤلفات.

اشتغلتم في حقل الدعوة والإصلاح.. كيف تقيّمون ما يتعلق بهذا الحقـل من خلال اشتغالكم ومتابعتكم الدائبة الدائمة؟

الدعوة إلى الله وإصلاح أحوال الأمة واجب مقدس، على كل مسلم أن يُساهم فيه بما يستطيع، وهو ميدان كغيره من الميادين، انتابَه الإقبالُ والإدبار، والقوة والضعف، لكنه –بحمد الله- لم ينقطع، ولن ينقطع بإذن الله.
والمراقب عن قرب، وبأدنى مقارنة، وبأقل تأمّل، يدرك أن جهود الدعاة والأئمة والموجِّهين لم تذهب سُدى، فقد حققوا كثيرا من الأهداف، أهمها الحفاظ على إشعاع هذا الدين على واقع الناس، وتصحيح كثير من المفاهيم، وتقرير كثير من الحقائق التي كانت غريبة عن واقع الناس فيما مضى، وصرف همم كثير من أبناء هذا الجيل إلى المعالي، ونقل الأمة من الانهزامية الفكرية إلى الاعتزاز بدينها وقيمها، دون خوف ولا وجل. ومن أهمها أيضا تفويت الفرصة على العدو ومخططاته في كثير من الجوانب، فلم يُحقق كل غاياته، ولا جل مقاصده. إلا أننا لا ننكر أن هناك ضعفا طال بعض الجوانب، لعل أهمّها جانب وحدة الكلمة وانصهار الجميع في تيار جارف تجمعه كلمة واحدة، وغايات واحدة، ومسارات متقاربة ليست متضاربة، فقد أصاب هذا الجانبَ –للأسف الشديد- خللٌ كبير، وضرر خطير، عطّل كثيرا من الجهود عن تحقيق أهدافها، بل صرف كثيرا منها عن مسارها السليم، إلى طريق غير قويم.
المهم أن هناك جوانب إيجابية في هذا الميدان كانت أقوى مما هي عليه الآن، والواجب هو إعادتها إلى ما كانت عليه
وأحسن، بعون الله. وأنّ هناك جوانب سلبية تحسنت الأحوال بضمورها وتغيُّرِ ظروف تأثيرها، فصرنا الآن ننعم بما آلَ إليه أمرُها من ضعف في التأثير، وكره في نفوس الناس كبير، بسبب جهود المخلصين وتضحيات المضحِّين. ولعل من أمثلة ذلك، ما كان يفرضه القائمون على الأنظمة الاشتراكية وما تلاها من تكميم للأفواه وقمع للحريات، ومن منع لمظاهر الطاعات، ومن إفساد في أغلب المجالات. فقد تغير كثيرٌ من ذلك إلى ما لم يكونوا يحتسبونه، وإلى ما لا يريدونه. والحمد لله الذي أبطل ما يمكرونه.

إلى مَاذا يمكن أن نعيد أسباب ضعف التأثير الخاص بالخطاب الإسلامي: الديني الوعظي، والفكري، والدعوي، والخيري والإنساني… ما هي الأسباب؟

بالنظر إلى الواقع ومتابعة هذا الميدان، وبالنظر إلى تحقق كثير من مقاصده، وبالنظر إلى تزايد عدد الملتزمين والمهتدين والمهتديات مقارنةً مع ما مضى، لا يمكن أن ننفي التأثّر بالخطاب الديني المتنوع في عصرنا، كما لا يمكن أن ننفي بالكلية الجوانب الإيجابية الكثيرة في الخطاب المعاصر، والتنوّع في الوسائل والأساليب المعاصرة عند الدعاة والحمد لله.
ومع ذلك لا ننكر أننا نلاحظ شيئا من الضعف أصاب جانب التأثر والتأثير ومدى الاستجابة ونوعيّتها، خاصة إذا ما قارنَّا الجيل الحالي مع الأجيال السابقة التي كان عندها شغفٌ كبير وتعلق كبير بالعلماء ورموز الصحوة، وإقبال كبير على ما يصدر عنهم، وكانت الاستجابة أقوى بكثير مما نراه الآن. ولعل من أسباب هذا الضعف:
أولا: كثرة هذا الخطاب في وقتنا، وانتشاره إلى الشرائح جميعا بشكل أكثر من الحاجة، ما أدى إلى زهد بعض الناس فيه وضعف التأثر بما يحويه؛ لأن العرض إذا كثُر قلّ بسببه الطلب، كما هو معروف.
ثانيا: تجرُّؤ كثير من غير الصادقين، وغير المخلصين على هذا المجال، مما أثَّر على قوة الخطاب ومدى تأثيره.
ثالثا: تجرّؤ كثير من الجهلة والمتطفلين وغير المؤهَّلين على هذا المجال بقوة واندفاع وحماس، ما أثمر انتشارا للجهل والخرافة وغيرها، ما من شأنه إحداث ردة فعل عكسية لمقاصد الخطاب الأصلية.
رابعا: دخول بعض الأعداء والعملاء والخائنين لأمتهم ودينهم هذا المجال لإفساده وصرف الناس عن قداسته ورسالته.
خامسا: مخالفة بعض الطيّبين والمخلصين لمنهج الحكمة في الخطاب الدعوي، ما أثمر نتائج خلاف المقصود.
إلى غير ذلك من الأسباب التي يمكن أن تُذكر بالتفصيل، لكننا آثرنا الإجمال اختصارا للمقال، ومراعاة للحال.

الاختلاف الموجود في الساحة الإسلامية، الدعوي والسياسي، هل هو قدرٌ مقدور أم هو شيء صنعناه بأنفسنا، وغلبة الأهواء علينا.. كيف تنظر إليه، وكيف نخرج من هذا الضعف الذي يتعمّـق بسبب الانقسـام والتشرذم..؟

الخلاف سنة من سنن الله وهو حاصل لا محالة، على كل المستويات وفي جميع المجالات. والواجب ليس هو القضاء على كل أنواع الخلاف، بل الواجب هو شيء من الفقه في مسألة الخلاف، يتبعه فقهٌ في مسألة التعامل مع الخلاف.
أما فقه الخلاف، فلابد – كحدٍّ أدنى – أن نعرف أن هناك دوائرَ لا تقبل الخلاف بحال، في موازين الحق والعدل، ودوائر لا يمكن أن لا يكون فيها الخلاف.
– فالأولى: هي دائرة أصول الاعتقاد والقطعيات والمعلوم من الدين بالضرورة، إضافة إلى قضايا العقول التي لا يختلف عليها عاقلان.
– أما الثانية: فهي دائرة مسائل الاجتهاد في الفقه والدعوة والسياسة والحياة بصفة عامة، فهذه لا يمكن أن تكون محل وفاق بين الجميع أبدا؛ لأن الله جعل ذلك سنة من سنن الكون والاجتماع لا يمكن أن تتبدل أو تزول.
أما فقه التعامل مع الخلاف، فلا بد من التفريق فيه بين الدائرتين:
– الدائرة الأولى؛ واجبنا هو إزالة الخلاف، والإنكار على المخالف، وعدم الرضى بالخلاف؛ لأنه حينئذ رضى بالباطل ومخالفة للصواب، وخروجٌ عن دائرة الإسلام أو دائرة العقلاء.
– أما الدائرة الثانية، فالواجب هو أدب الخلاف، واحترام المخالِف، ومحاورته بنيَّة الوصول إلى الحق دون تعصُّب ولا مراوغات.
وبعد هذا البيان أقول: نحن نعاني من مشكلتين في هذا الجانب:
– المشكلة الأولى: عدم التفريق بين الدائرتين ما يورث عندنا خلطا في الإقرار والإنكار، وفي ترتيب الأولويات، وحسن أداء الواجبات.
– والمشكلة الثانية: غياب أدب الخلاف في مسائل الخلاف، ما فتح باب الصراع والعداوات على مصراعيه، وتسبب في تخلف مشاريع النهضة، وضياع جهود المصلحين.

من ملامح هذا التفرّق والتشتّت ما يتلعق بالفُتيا؛ إذ نعيش خلطا وفوضى عارمة في هذا المجال. كيف يبدو لك السبيل إلى تجميع الجهود وتحقيق نوع من الوحدة أو على الأقل التقارب في مجال الإفتاء والإرشاد، بما يوثّق عرى المجتمع ويقوِّي وحدته ويقرّب بين قلوب وعقول أبنائه وبناته؟

أما فوضى الإفتاء فهي من نوازل العصر، ومن أخطر ما أثّر على دين الناس واستقرار أوضاعهم، حيث فتحت القنوات أبوابها لكل من هبّ ودبّ، وكذلك وسائل التواصل مكّنت صغار طلاب العلم والجهلة من اقتحام هذا المجال الخطير؛ فحصل اضطرابٌ كبير عند الناس، وضعفت ثقتُهم في فقهائهم، وتجرّأ الناس على الحرام باسم التدين والفتوى، فانتُهِكت حدود الله باسم الله، واعتُدِي على أحكام الإسلام باسم الإسلام.
ولستُ هنا أنفي وجود فقهاء عمالقة، وطلاب علم جادِّين يُساهمون بإيجابية في هذا المجال، لكن كارثة الفوضى هي التي غلبت، والحكم للغالب كما يقول الأصوليون.
والحل – حسب رأيي – أن تركِّز الدول على صرف بعض نوابغها إلى التخصُّص في هذا المجال الخطير والمؤثر على نهضة الأمة واستقرارها، وأن تنُشِئ المعاهد الجادة والمتخصصة لإخراج فقهاء متضلعين يعيشون عصرهم ويحلُّون أزمات مجتمعاتهم بحسن فقههم، وأن يكون للسلطان -السياسي والاجتماعي- دورُه في ضبط هذه الدائرة وعدم السماح لغير المختصين المؤهَّلين بالخوض فيها، إضافة إلى مشاريع ضخمة تنتظر مبادرات الحكومات والمؤسسات المدنية والجامعات ونحوها، وحتى الأفراد، لخدمة هذا المنحى وإزالة اضطرابه، ويمكن أن تسبقها وتصاحبها وفرة من الكتب والمحاضرات والحصص التي تركّز على أهمية ضبط المرجعيات وتعلّم أدب الخلاف، وبيان شروط المفتي، ونشر ضوابط تعين العوام على حسن الاهتداء بحسن الاقتداء.

اشتغلتم في مجال النشر والاتصال والإعلام، ما هو تصوّرك للإعلام الذي يخدم الدين والوطن وينفع البـلاد والعباد.. سواء على مستوى مؤسسي (إنشاء مؤسسات وهيئات ومراكز بحث وإعلام واتصال، أو على المستوى الفردي من خلا ل جهود الدعاة والعلماء)؟

الإعلام سلاح العصر والاهتمام به أولوية كبرى، وإهماله والزهد في حسن استغلاله، جهلٌ وغباء وانحراف. وهذا مما لا يختلف عليه عاقلان، فليس من مسائل الخلاف حتى نعذر فيه المخالف، بل يجب تعليمه، أو تعنيفه.
ولا يخفى أن أغلب قنواتنا في واد، والمبادئ والقيم في وادٍ آخر، للأسف الشديد.
وتصوّري أن الإعلام الذي ننتظر منه خدمة الأمة والحفاظ على مبادئها والإسهام الجاد في نهضتها، ليس هو ما يُسمى الإعلام الديني؛ لأن ذلك أقرب إلى الرسالة التعليمة منه إلى الرسالة الدعوية في واقعنا المضطرب، وإنما هو الإعلام الإسلامي، والمقصود بهذا المصطلح – حسب فهمي – هو الإعلام الناجح والمؤثر، والجذّاب، والمبدع، والمتنوع، الذي يُسيَّج بحدود الله فلا يتعداها، وبمقاصد الدين فلا يُهملها، وبآداب الشرع فلا يتجاوزها. فتجد فيه كل ما يرغب فيه الناس لكن دون خضوع لوساوس الوسواس الخناس.
فليس هو الإعلام الذي فيه درس، بعده محاضرة، بعدها خطبة جمعة، بعدها حوارٌ ديني، بعده تذكرة، بعده موعظة، على أهمية هذه المحطات، لكنّ جمعها وتتاليها في مسار واحد، من الأخطاء الكبرى فيما نريد من إعلام يؤثّر في الجيل الجديد ويشدّه إلى متابعته، ويحقق له ما يريد من المتعة دون معصية.
والحل – في نظري- هو توعية الناس بهذا، فإذا صار قناعة؛ فسوف يقيّض الله له من الأفراد أو المؤسسات من يحوّله إلى واقع ملموس إن شاء الله.

بالنظر إلى أهمية الإعلام ومركزيته.. كيف تقيّم إعلام جمعية العلماء بصفة عامة وماذا تقترح كداعية ومتابع مهتم، ما هو المطلوب بالضبط من وجهة نظرك؟

إذا أردنا أن نقيّم إعلام الجمعية في ضوء ما ذكرنا سابقا، فإن الإعلام الإسلامي أمل ما زال بعيدا على واقع الجمعية وقدراتها، وأخشى أن أقول حتى على قناعات بعض أفرادها، لكنه أمل غير مستحيل، وهو من أهم اهتماماتي واهتمامات بعض الأفاضل فيها وفي غيرها، وهم من الأمور التي أنا مقتنع بها، وأركز عليها، وأدعو إليها، وأجتهد في النجاح فيها إن شاء الله يوما ما.
ومع ذلك أقول إن تجربة الجمعية في ما أتيح لها تُعدّ ناجحة بشكل كبير، فقد استمرت جريدتها المباركة تؤدي رسالتها دون توقف، وأصدرت عددا من المجلات باللغتين، وفتحت مواقع عديدة في مواقع التواصل، ناجحة نجاحا باهرا في سد ثغرة كبيرة في هذا المجال، فالحمد لله على كل حال، وننتظر المزيد من العطاء والنجاح.

كلمة أخيرة

أرجو أن نوفق جميعا لنيل شرف خدمة الدين والوطن والأمة، بإخلاص وصواب، وأن يُكرمنا الله بجمع شمل أبناء وطننا على كلمة سواء، وأن يجعل جمعية العلماء محل ثقة الشرفاء، وأن يُهيّئ لها من أمرها رشدا، وأن يجعل ما تستقبل الجزائر خيرا مما استدبرته، وكذلك أمة الإسلام، بل البشرية جمعاء. إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، سبحانه، والله ولي التوفيق.

مقالات ذات صلة