-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فوكو ياما يراجع كتابة نهاية التاريخ 2/2

خير الدين هني
  • 850
  • 0
فوكو ياما يراجع كتابة نهاية التاريخ 2/2

لم أحظ بقراءة ما كتبه فوكو ياما في تراجعه عن فرضه الذي حكم به على نهاية التاريخ، حين رأى بوادر بروز العملاق الصيني وهيمنته على المرتبة الثانية في الناتج المحلي الإجمالي، وهو يتقدم -يوميا-  بخطوات متسارعة في البحث والدراسة وارتفاع معدلات النمو، وإنما اطلعت على نتفة مقتضبة تناولت تراجعه ومراجعته لفروضه التي انطلق منها، دون خوض النتفة في تفاصيل بحثه الجديد، ولذلك فأنا أخمّن -بناء على توارد الأفكار- عناصر أطروحته الجديدة، وأستبطن مضامين كلامه من خلال المؤشرات الاقتصادية العالية للصين التي اتخذها قاعدة لبحثه الجديد.

ولامندوحة لهذا الفيلسوف والسياسي الأمريكي الكبير، من ترك هذه الظاهرة الاقتصادية المتنامية لهذا العملاق الناهض من خموله وسباته الطويل، من غير نظر وتدقيق في العوامل المبتكرة التي تطور بها نظريته السياسية والاقتصادية، وفق منظور مدروس بمعايير الوجاهة الاقتصادية التي تعتبر جوهر كل تطور وازدهار، وهي التي مكنته من إحداث طفرة كبيرة في عالم الأفكار والتكنولوجيا والتقنية، خلال أربعة عقود فقط، فراجع فرضه السابق (نهاية التاريخ) الذي حكم به على تفوق النظرية اللبرالية على غيرها من النظريات المتصارعة، إذ اعتبر أنّ التاريخَ انتهى بسيادة الأفكار السامية التي انتهجتها بلاده في التسيير الاقتصادي والسياسي، لكون اللبرالية السياسية والاقتصادية هي النموذج المثالي الذي اتبعه العالم كنظام صالح لحياته، وهو لا يعني بنهاية التاريخ انقضاء أحداثه ووقائعه، وإنما قصد من ذلك أن البشرية أنتجت نظرياتٍ متعددة للتسيير السياسي والاقتصادي، ولكنها فشلت كلها في إثبات وجودها، وانتهت في اختياراتها عند القيم اللبرالية والديمقراطية وحرية المنافسة، فكانت هذه القيم المثالية أن قضت على الإيديولوجيات الفاشلة، بمثاليتها وجمودها ونكوصها وقتلها للضمير الإنساني.

الشيوعية قتلت في الإنسان حرية الحركة، والنشاط والتفكير والإبداع والابتكار وروح المنافسة، والديكتاتوريات الاستبدادية أرعبت الإنسان ونكبتْه، وسلبت منه إرادة الاختيار وقوته الفاعلة التي هي المحرك لكل بناء نهضوي، خلافا للحرية السياسية والاقتصادية، فهي أنجع سبيلا يقدم الحلول السحرية لمشكلات العالم الإنساني، إذ حقّقت الدول التي سارت في ركاب الولايات المتحدة، تطورا كبيرا في عالم الأفكار والتقنية والتفوُّق والرفاه المعيشي، وقضت هذه الدول -التي كانت ضمن محور السوفييت- على أساطير الأفكار الميّتة التي غذتها الخرافة الإيديولوجية، مما جعل  هذه الدول تحتل الصدارة في عالم التقنية والصناعة والفلاحة والسياحة، ووفرة الإنتاج وجودة الأداء في التسيير، وتحقيق الرفاه والازدهار لشعوبها.

ولما رأى العالم تفوّق النموذج الأمريكي للولايات المتحدة والغرب إجمالا، اقتفى أثرهما في اعتماد نموذجهما ضمن المشاريع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وبذلك حسمت أمريكا الأمر لصالحها وصالح قِيمها، وأوقفت التسابق في مضمار القيم المتنافسة، وأنهت التاريخ بتفوُّق قيم الحرية والديمقراطية واللبرالية والرأسمالية، وسيادة هذه القيم في بلدان العالم كله، ولذلك تستحقّ الهيمنة على العالم وقيادته نحو الوجهة التي تبتغيها.

هذا ما توهّمه هذا المفكر حين جزم بصحة فروضه، ولكنه  نسي أن التاريخ لم يُخلق ليعيش حياة الجمود والركود والهيمنة عليه من أي قوة مهما بلغت سطوتُها وطال أمدها، وإنما خُلق ليكون حرا طليقا في حركته ونشاطه وتنقُّله بين الأمم، يتحرك وفق مشيئة مُقدّرة عبر دورات غير متوقفة عند الحدود والأزمنة، لأن التاريخ تحكمه سننُ التدافع والتغيير التي هي من أسرار الحياة التي خلقها الباري سبحانه؛ فالباري عز وجلّ ليس شيخا وقورا أنهكته أعباء الحياة وجريان الزمن، وهو جالسٌ في عليائه على عرشه، يتفرج على الأحداث من غير إرادة ولا توجيه، كما يتوهّم المجسِّدون من الحسّيين اليهود وغير اليهود، وإنما هو إلهٌ تنتفي عنه صفات الحلول والتجسيد والتحيّز والتأثر بالعوامل الخارجة عن ذاته       -تعالى عن ذلك علوا كبيرا- وهو في كل يوم في شأن، والأمر كله بين يديه يسيّره كيفما يشاء، بعلمه وحكمته وإرادته وقوانينه الرياضياتية والفيزيائية، نحو أهداف مرادة ومعيّة بالإرادة والقصد.

ولا نعلم إن كان فوكو ياما يؤمن بالحقيقة الغيبية ويتصورها على نحو ما يتصورها المؤمنون، أم هو على نحو ما يؤمن به الطبيعيون من علماء الأحياء؛ ممن يؤلّهون العقل والطبيعة والقوانين الفيزيائية؟ والظاهر أن له تصورا عقديا يخالف فيه المؤمنين بأزلية التغيير وعدم الثبات، لأن حكمه بـ”نهاية التاريخ” لصالح نظرية نموذجية كان يؤمن بها، هو آية فرضنا على أنه يبني نظرياته على المتغيرات المتغلبة، فإذا ارتكست وظهر ما يُبطل ثباتها وديمومتها غيّر رأيه وأبدى رأيا آخر بناه على تصورات جديدة، أما المؤمنون فيؤمنون بأنَّ الثبات خلودٌ واستقرار على هيئة واحدة، والخلود من صفات الباري سبحانه. أما ما في الوجود من أفكار وموجودات فمصيرها التغيير والتبديل والفناء.

كان فوكو ياما يرى بأن الدورة التاريخية في صراعها بين القوى المتنافسة والمتصارعة على الهيمنة، انتهت لصالح بلاده، لأنَّ البقاء للأقوى والأنفع وما دون ذلك فمصيره الزوال والفناء، ولكنه لم يلبث أن غيَّر أفكاره وأعاد النظر في صياغة نظرية جديدة عندما رأى بداية تقهقر التفوُّق الأمريكي، وبروز طفرة جديدة في الانتقال الحضاري لدى قطب بشري آخر، وأن ميزان الهيمنة أخذ يميل إلى صالح هذا القطب، وأن هذه الطفرة لم تكن أمريكا تعيرها اهتماما كبيرا أيام الحرب الباردة مع السوفييت، وهذا القطب الصاعد في صمت رهيب، ومن غير ضجيج إعلامي أو شعاراتي على نحو ما يفعله السياسيون المؤدلجون والقوميون، أصبح يحمل تصورا فلسفيا آخر، مخالفا للتصور الأمريكي والسوفييتي، وهو التصور الذي بُني على عقيدة ثلاثية الأبعاد، جسَّدتها اللبرالية المنفتحة في التسيير الاقتصادي والمالي، والإيديولوجية الشيوعية الصارمة في الإدارة والإشراف السياسي، والكونفوشية بتعاليمها الروحية والأخلاقية في السلوك العملي والمعاملاتي.

كان أن شكلت هذه النظرية الجديدة غير المحسوبة، بعدا إيديولوجيا مخالفا للبعد الأمريكي الأحادي في تنظيره الفلسفي، وللبعد الشيوعي برؤيته العقائدية والاحتكارية، فلما امتزجت هذه الأبعاد في العقل الصيني جعلته إنسانا مثاليا في تفكيره ونشاطه وحيويته وانضباطه وسلوكه وعمله واجتهاده، وقدرته الفائقة على الاندماج مع القيم الجديدة للفلسفة السياسية والاقتصادية التي اختارتها الصين كنموذج لحياتها، ولذلك تفتقت مواهب هذا الإنسان وأخذ يشقّ طريقه نحو رسم خط سيره نحو النجاعة والمردودية والإنتاج والإنتاجية، والتحكم في العلوم والمعرفة والتقنية، وأخذت ملامح تفوقه تبرز إلى الوجود.

وبهذ النظرية الجديدة، احتل هذا العملاق الناهض المراتب الأولى في البحوث، والتحكّمِ في أمهات اللغات، والنشريات المحكّمة وبراءة الاختراع، وتخرُّجِ العلماء والمهندسين والفنيين والمؤهّلين، والقدرةِ الفائقة على التغلب على جائحة كورونا، وحصر بؤره بالتطعيم وارتفاع درجات الوعي والانضباط والصرامة في إجراءات الوقاية، والعالم كله توقفت فيه حركة التنقل بين مدنه وأنشطته الصناعية، وشعوبه لم يمتثلوا للتحذيرات وقواعد الانضباط بإجراءات السلامة، ورغم أن مصدر الوباء انطلق من بلادها إلا أن صرامة التسيير السياسي والقانوني، أجبرت المواطن الصيني على الامتثال لإرادة الدولة، وساعد على ذلك الانضباط الطوعي، الالتزام بالتعاليم الأخلاقية للكونفوشية.

وجعل هذا التفوّق الساحق بإيديولوجيته الثلاثية، يهدد القيم الأمريكية وتفوقها وهيمنتها على العالم، وسجّل مستويات عليا في ارتفاع معدلات النمو، وحسب بيانات صندوق النقد الدولي، فقد سجلت الصين في الربع الثالث من عام 2020 معدل نمو بلغ 4.9 % في الوقت الذي واجه العالم ركودا بسبب الجائحة، واحتلت المرتبة الثانية بناتج محلي إجمالي بلغ 14.72 تريليون دولار عام 2020، بعدما بلغ 89 مليار دولار فقط في عام 1989، مقابل 20.94 تريليون دولار للولايات المتحدة. وقال )بنك أوف أميركا(: إن الصين تسعى لمضاعفة ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، وستتجاوز الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم، لأن الصين وضعت رؤيا طويلة الأمد، تنتهي في 2050، لكي تصبح دولة متطورة بالمعايير الدولية، وتوقعت حدوث ذلك قبل 15سنة، أي: في عام2035. وهي تعمل ليلا نهارا عبر البحوث والدراسات والاختراعات، وبالجدّ والنشاط وبذل الجهد وبالتطبيق الفعلي، والرقابة والمتابعة لمشاريعها الإنجازية في الآجال المحددة، وليس بالتماوت والتباطؤ والتسويف والتماطل والتناسي، والشعارات والخطب الجوفاء. في المقال القادم -إن وفقنا الله- سأتناول ما قاله الخبراء الدوليون عن عوامل تقهقر دور الولايات المتحدة، وبروز الصين كقوى اقتصادية ومالية وصناعية صاعدة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!