-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قرن ونصف قرن على إلغاء مجلس الإفتاء

قرن ونصف قرن على إلغاء مجلس الإفتاء
ح.م

لا يمكننا فهم غياب مجلس الإفتاء كمظهر من مظاهر السيادة للدولة الجزائرية المستقلة منذ سنة 1859م، إلاّ إذا تتبعنا سياسة فرنسا الاستعمارية نحو الإسلام ومؤسساته ورجاله منذ أن وطئت أقدامُها ثرى الجزائر، كما لا يمكننا فهم غيابه في ظل الدولة الجزائرية المستقلة 1962-2019م، إلاّ إذا عرفنا مدى تبعية النظام والسلطة الجزائرية للسياسة الاستعمارية الفرنسية، وهذه لمحاتٌ عن سياسة فرنسا الاستعمارية مع الإسلام ومؤسساته ورجاله في الجزائر.

لقد أغرقت الإدارة الاستعمارية الجزائر بترسانة من القوانين الجائرة كقوانين الضم والإلحاق، التي تقضي بضم الجزائر إلى الممتلكات الفرنسية الصادر يوم 22/07/1834م ووضعها تحت  إدارة حاكم عسكري، ثم قانون 03/03/1848م الذي يعتبر الجزائر جزءا مكملا لفرنسا، ثم قانون 24/10/1870م الذي يقسِّم الجزائر إلى ثلاث مقاطعات فرنسية. وقوانين التنصير والتغريب كقرار مجلس الشيوخ الصادر يوم 14/07/1865م الذي جعل الجزائريين رعايا فرنسيين، والمعروف بـ (سانتوس كونسيلت). والقانون الصادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي يوم 13/12/1859م، الذي ينص على إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية في منطقة القبائل، ويبدله بالعرف والعادات. ومن ذلك أيضا الأمر الصادر يوم 10/09/1886م القاضي باستبدال التحاكم إلى الشريعة الإسلامية والاستعاضة عنه بالقانون الوضعي. وقوانين المسخ والفرنسة، كقرار الحصول على رخصة قانونية لفتح مدرسة لتعليم الدين الإسلامي واللغة العربية الصادر يوم 18/10/1892م. وقانون فصل الدين عن الدولة الذي أصدره مجلس الشيوخ الفرنسي في سبتمبر 1905م، والذي نظمه مرسوم 27/09/1907م الشامل للدينين المسيحي واليهودي عدا الدين الإسلامي. وغيرها من القوانين كقوانين التجزئة الطبقية، والتسخير والتفقير، وقوانين الردع الزجري، وغيرها..

موقع المؤسسة الدينية في الجزائر:

قُدِّر عدد المؤسسات الدينية بمدينة الجزائر غداة الاحتلال بنحو (170) مؤسسة دينية، ما بين جامع ومسجد وضريح وزاوية ورباط ومدرسة وكُتّاب، كما قدِّر عدد المؤسسات الدينية في الحواضر الثلاث الشهيرة بأعداد مشابهة ومماثلة لما كانت عليه مدينة الجزائر، ففي قسنطينة تراوح عدد المؤسسات الدينية فيها إلى سبع مدارس ثانوية، ونحو ثمانين مدرسة ابتدائية، وعشرين زاوية وضريحا، وخمسة وثلاثين مسجدا كلها للتعلم والعبادة، كما حفلت مدينة تلمسان وبجاية بمثل ما حفلت به مدينة قسنطينة.

وقد تناول المؤرخون في مصنفاتهم عدد المساجد والجوامع والزوايا والرباطات الصوفية والأضرحة وأوليائها والمكتبات.. في كل بلدة ومدينة، مفصلين القول في هندستها ومساحتها ونظامها وحال الأوقاف فيها، ونوعية الجرايات المسيّرة لها الشهرية والسنوية، ووظيفة القائمين عليها من أئمة ومدرِّسين وخطباء ومؤذنين وقيِّمين، ومذاهبها الدينية.

وقد قدَّرت أوقاف مدينة الجزائر وحدها عشية الاحتلال بنحو أربعين مليونا فرنكا ذهبيا موزعة على قرابة ألف وخمسمائة عقار وملكية متنوعة. وقد أحصت الباحثة (خديجة بقطاش) في رسالتها العلمية (الحركة التبشيرية في الجزائر)، عدد الأوقاف في مدينة الجزائر، ونوعيتها استنادا إلى التقرير الذي وضعته اللجنة الإفريقية عام 1834م، وهي أوقاف كثيرة جدا ليس مقام تفصيلها الآن.

وقد عرفت الجزائر منصب المفتي والقاضي وقاضي القضاة، الذي كان يُعيَّن في عهد الدولة العثمانية من المذهب الحنفي المذهب الرسمي للدولة، وبصحبته كان يوجد قاض مالكي، وظيفتهما السهر على أهم قضايا الإسلام في الدولة.

كما عرفت الجزائر مؤسسة المجلس الشريف، وهو المجلس الشرعي أو العلمي المكون من: قاضيين ومفتيين وكاتبين برتبة باش عدل، وكان يحضر جلساتها القضائية الباشا نفسه، وفي المجلس كانت تفصل كبريات القضايا وتعقب فيه على أحكام القضاة العاديين، وتسمع فيه تظلُّمات المتظلمين من الرعية، ومن صلاحياته تعيين ناظر الأوقاف وناظر المعارف المشرف على التعليم، وترسيم المدرِّسين وينعقد هذا المجلس كل يوم خميس بالجامع الأعظم بالعاصمة، وهو شبيهٌ بديوان المظالم، وقد ألغي هذا المجلس بقرار من الإدارة الاستعمارية عام 1859م وانحصر القضاء الشرعي بعده في الأحوال الشخصية وتركت شؤون المسلمين الأخرى يُحتكم فيها إلى القانون الفرنسي.

هذه المؤسسات الدينية التي ستجد نفسها غير محمية بمعاهدة الداي حسين ودو بورمون بالرغم من تضمُّن المعاهدة لبنود تضمن احترامها، وسرعان ما انكشف كذب العهد والشرف الفرنسي مع أول مرسوم يصدره قائد الحملة الفرنسية يوم 08/09/1830م، وبعد شهرين من الاحتلال القاضي بمصادرة كل الأوقاف الإسلامية والاستيلاء عليها، ليعقبه يوم 09/09/1830م قرارُ حق التصرف في الأملاك الدينية بالتأجير والكراء والاستعمال، ومنذ استصدار هذين القرارين يكون دو بورمون قد أطلق يد المسيحية والاستعمار لقتل الإسلام والإجهاز على مؤسساته ورجاله وأمواله.. وبعد ثلاثة أشهر أصدر قرارا آخر يوم 07/12/1830م ضم بموجبه كل الأملاك الوقفية إلى مصلحة أملاك الدولة.

ولم يكد يمر عامٌ واحد على الاحتلال حتى قررت قيادة الحملة تمسيح جامع كتشاوة وتحويله إلى كنيسة، وفي يوم 17/12/1831م حاصرت قوات الجنرال دو روفيقو جامع كتشاوة الذي تحصَّن فيه الآلافُ للدفاع عنه، ولكن الجيش تلقى الأوامر بكسر الأبواب وإطلاق النار على المصلين، فتدفق السكان المعتصمون بالمسجد خارجه ما بين قتيل وجريح ومغمى عليه.. ثم أغلق المسجد إلى غاية إتمام الأشغال لتحويله إلى كاتدرائية، وقد اختار القس كولان مناسبة يوم 24/12/1832م ليصير كاتدرائية تحمل لقب الملك لوي فيليب الذي بارك هذا العمل المسيحي العظيم، وبعث هو وزوجته والبابا بالهدايا الثمينة للكاتدرائية الجديدة.

وما بين سنتي 1830-1832م تم تحويل زهاء اثنين وثلاثين مسجدا وجامعا إلى خدمات المصالح الإدارية، وتحطيم خمسة مساجد في الجزائر العاصمة، واستمرَّت الإجراءات الفرنسية ضد الدين الإسلامي، إلى أن اتفق البابا غريغوار والملك لوي فيليب على تأسيس الأسقفية المسيحية الأولى بأرض إفريقيا يوم 18/08/1838م، ثم أتبع بمرسوم 31/10/1838م القاضي بتعيين السيد أنطوان ديبيش أول أسقف لها في إفريقيا.

ثم جاء المرسوم الملكي المؤرخ يوم 21/08/1839م بإثبات جميع قرارات قيادة الحملة الفرنسية بخصوص الأوقاف، ليعقبه قرارُ وزير الحربية يوم 23/03/1843م القاضي بتحويل مداخيل المؤسسات الدينية إلى مصالح الدولة الفرنسية. ثم توالت بعد ذلك اللوائح والمنشورات التي تغتصب أموال الأوقاف، إلى أن حلت سنة 1847م التي أبعد فيها الشيخان (مصطفى بن الكبابطي المالكي) و(محمد العنابي الحنفي)،  ونُفيا إلى المشرق العربي وادَّعت الحكومة الاستعمارية ضياع عهود ووثائق الأوقاف.

ثم تطاولت الإدارة الاستعمارية لإلحاق الجزائريين بفرنسا بموجب دستور 04/11/1848م وليصبح المسلم الجزائري فرنسيا، متعدِّية على حقوق الجزائريين؛ لا في حق الهوية والانتماء والتقاضي فحسب، بل في وجوب التحاكم إلى المحاكم الفرنسية  التي تحكم بالقوانين الوضعية.

وأصدرت قانون 21/12/1859م الذي يفصل إقليم بلاد القبائل الكبرى عن سائر البلاد الجزائرية في مسألة التحاكم إلى القوانين الوضعية وإلى العُرف المحلي والعادات والتقاليد، ملغية بذلك سلطة القضاء الشرعي والقضاة المسلمين في بلاد القبائل، وألغت بقرار عام 1859م المجلس الشريف للإفتاء، وليبقى القضاء الشرعي مقتصرا على الأحوال الشخصية الإسلامية، وتحويل ما عداه إلى المحاكم الفرنسية.

ونسفت الجمهورية الثالثة القضاء الشرعي نسفا بإصدارها قانون 26/07/1873م الذي ينزع من القضاة المسلمين حق النظر في مسائل الملكية والاستحقاق، وكذلك قانون 28/12/1874 الذي تم بموجبه استبدال حكم الشرع الإسلامي بنظام الجماعة الأهلية في بلاد القبائل خاصة وفي الجزائر عامة. ولتلغي بقانون 29/12/1874م سلطة بعض القضاة المسلمين الذين عيَّنتهم للقضاء الإسلامي في بلاد القبائل.

ثم ضيَّقت الأمر على المسلمين باستصدار قانون 17/04/1889م الذي يجعل قاضي الصلح الفرنسي هو الحاكم في القضايا العامة للجزائريين، بعد أن كان موكولا للقضاة المسلمين الذي دعمه قرار 07/06/1889 الذي يجرد القضاة المسلمين من كل الصلاحيات المخولة لهم شرعيا إلا من صلاحية الإشراف على الأحوال الشخصية، الذي سينقحه ويضبطه قرار 25/05/1892م المنظم للقضاء الشرعي، ويجرده من كل سلطة شرعية، ولينحصر القضاء الإسلامي في أضيق الحدود، وليقتصر عمل القاضي المسلم على الأنكحة والمواريث والصلح.

واستمر التدخل الاستعماري في شؤون المسلمين حتى بعد صدور قانون 1905م القاضي بفصل الدين الإسلامي عن الدولة، إلى أن جاء قرار (شوطان) 16/02/1933 الذي يمنع الوعظ والإرشاد في المساجد لغير العلماء المعيَّنين من قبل الإدارة الفرنسية، ويجعله حكرا على الأئمة الرسميين فقط. وقانون محاربة اللغة العربية والتعليم العربي الإسلامي والتضييق على تدريسها، واعتبارها لغة أجنبية بموجب قانون 08/03/1938م.

وما هو إلا قرن من الاحتلال حتى كان عدد الكنائس المسيحية في الجزائر في بداية الأربعينيات زهاء 327 كنيسة، فضلا عن 45 معبدا لليهود، و166 مسجد فقط في الجزائر كلها.

أين هو مجلس الإفتاء بعد الاستقلال؟

وجاءت حكوماتُ الاستقلال التي لم تنصف الإسلام ومؤسساته ورجاله، ولم يكن يعنيها مسائلُ السيادة الدينية البتة، ولاسيما تعاملها مع رجال جمعية العلماء المسلمين، الذين أرسلت بهم إلى الشؤون الدينية والتعليم والإقامة الجبرية والمعتقلات، وضيقت عليهم ولاسيما في عهد حكومة الراحلين (أحمد بن بلة ت 2012م -1963-1965م) و(هواري بومدين ت 1978م-1965-1978م)، وقصة الرئيس الراحل أحمد بن بلة مع الراحل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بعد البيان التاريخي يوم 16/04/1964م باتت معروفة، وقصة الرئيس الراحل هواري بومدين مع أستاذه  الراحل (صديق سعدي ت 1968م) عندما استدعاه لتأسيس المجلس الإسلامي الأعلى واستقالته بسبب الثورات الثلاث (الزراعية والصناعية والثقافية) التي فرضها الراحل بومدين بمساعدة اليسار الشيوعي، وتولية من جاء بعده كالشيخ أحمد حماني ت 1998م، والمفكر عبد المجيد أومزيان ت 2001م، والمفكر الفيلسوف أبو عمران الشيخ ت 2016م، وتولية الأستاذ أبو عبد الله غلام الله، وتحويله إلى مجلس استشاري ومقر للفلاسفة والنفسانيين والاجتماعيين والأدباء والمفكرين.. عدا بعض المتخصصين، ليناقشوا أمهات المسائل والنوازل الفقهية التي أسالت الحبر الكثير في المجامع الفقهية ودور الإفتاء العربية والإسلامية.. والتي تحتاج إلى المتخصصين في علم أصول الفقه والفقه والنوازل وعلم المقاصد وفقه الواقع والتنزيل، والتي دونها المجلدات ورفوف المكتبات والعقول الفقهية النيرة المخزونة والمهملة في كليات العلوم الإسلامية المنتشرة عبر الوطن..

فهل آن أوان استعادة السيادة الوطنية الدينية؟ وهل آن أوان إعادة إحياء مجلس الإفتاء الذي محته الإدارة الاستعمارية وتناسته حكومات الاستقلال 1962-2019م منذ أكثر من قرن ونصف؟ جواب ذلك مع الرئيس المنتخَب إن شاء الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!