-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كلامٌ في الانتخابات (2)

كلامٌ في الانتخابات (2)

استكمالا للمقال السابق، يمكن تسليط بعض الضوء على الإشكالية المثارة بالملاحظات التالية:

1- ينصبُّ التساؤل عادة في الانتخابات حول حرية الإنسان (الناخِب) في الاختيار. فهل الفرد حرٌّ سليم الإرادة، واع بمهمة من ينتخبه في التّكفل بالشأن العام؟ أم إنّ حاجاته الشخصية واحتياجاته المعاشية وخدماته وغيرها هي محددات اختياره في التصويت؟

يتأسَّس الانتخاب على قاعدة الاختيار الحر، ولكن لا يمكن أن يكون الإنسان حرا إذا كان جائعا. كما أنه لا يمكن أن يكون ذا إرادة حرة يفضي خيارُها إلى تأكيد السيادة ويُكسِب الشرعية إذا كان صاحبُها عديم الوعي، عابدا لهواه، جهوي القناعة، عشائري الانتماء والاختيار.

إنه لا سيادة شعبية محترمة لأغلبية انتخابية مصابة بعلل الجهل والفاقة وغير قادرة على فرض وجودها العامّ عن طريق ترشيد سبل الاحتجاج والاعتراض والمتابعة والمحاسبة.

كما أنّ مجتمعا أسير التوجيه والتضليل ذا قابلية للاستبداد والاستعباد لا يمكن أن يكون مصدرا للشرعية باسم السيادة الشعبية.

2- إنّ من يناضل من أجل فوز مرشح يرجو منه مصلحته الشخصية، لا يمكن أن يكون خياره بانيا ومنتجا لسيادة شعبية.

3- من كان خياره في الانتخابات دُنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فخياره لا يمكن أن يكون مصدرا لسيادة شعبية يمكنك الاحتجاج بها.

4- من كان خياره منحصرا في شخص أو أشخاص لا كفاءة لهم في تسيير الشأن الوطني ولا تمثل المصلحة الوطنية الشاملة أولوية في قناعاتهم، لا يمكن أن يكون اختياره تعبيرا عن سيادة شعبية.

5- وهكذا من باع صوته مقابل نفع مؤقت أو هوى في نفسه أو مترجما لتخلف فكري وثقافي واجتماعي لا يمكن اعتبار خياره تعبيرا عن إرادة شعبية سيدة جديرة بالالتزام، بل هي ظاهرة مرضية وجب علاجها والتنبيه إلى خطرها ومحاصرتها بكل الوسائل التعليمية والتوعوية وحتى القانونية والتنظيمية إذا لزم الأمر.

ثالثا: أحكام أخرى متعلقة بإرادة الشأن العام وجب أخذها بعين الاعتبار.

إنّ العملية الانتخابية عملية متعددة الأطراف، وهي بذلك مرهونة من ناحية القبول والاحترام والإقناع بقيام كل طرف بدوره ضمن الحدود القانونية والتنظيمية، فإذا قصّر طرف في ذلك أو تعدّى صلاحياته لحِق التشويه والفساد العملية برمتها.

من أجل ذلك، وجب التركيز والانتباه إلى الحالات التالية:

1- أولوية التزام المؤسسات الدستورية بصلاحياتها من دون تجاوز تحت أي ذريعة كانت إلّا بما يسمح به القانون الأساسي للدولة.

قد تبدو هذه الملاحظة بديهية. صحيح أنها كذلك في المجتمعات السياسية التي تحترم قوانينها، ولكنها في مجتمعات أخرى ترى بعض المؤسسات فيها نفسها ذات وصاية على كل المؤسسات بل وحتى على الخيارات الشعبية، وانطلاقا من ذلك ترخص لنفسها التدخل في مختلف مراحل العملية الانتخابية، وتعتقد بذلك أنها أحرص على المصلحة الوطنية وأعرف بها من غيرها.

لا سيادة شعبية محترمة لأغلبية انتخابية مصابة بعلل الجهل والفاقة وغير قادرة على فرض وجودها العامّ عن طريق ترشيد سبل الاحتجاج والاعتراض والمتابعة والمحاسبة.

كما أنّ مجتمعا أسير التوجيه والتضليل ذا قابلية للاستبداد والاستعباد لا يمكن أن يكون مصدرا للشرعية باسم السيادة الشعبية.

إنّ مثل هذا التصرف المنتشر في كل أصقاع الأرض والذي يأخذ أشكالا متباينة مازال عصيا عن التحكم فيه والحد منه والتقليل من أثره.

وتعرف هذه الظاهرة تعميما وانحسارا بقدر انتشار الوعي السياسي والنضال المجتمعي والتطور القانوني، فكلما ترسخت هذه العوامل انكمشت هذه الظاهرة وتقلّصت، وكلما تراخت وغابت هذه العوامل طغت هذه الظاهرة وتحكّمت.

وعليه، وبالنتيجة فإن سلامة العملية الانتخابية مرتبطة أيضا بمدى التحكم في تأثير هذه الظاهرة ووضع حد نهائي لها ما أمكن حتى تكون نتائج العملية الانتخابية باعثة على القبول والطمأنينة.

2- استقلالية قانونية وفعلية للقضاء.

من الأسماء التي أُطلقت على القضاء في التاريخ الإسلامي “دار المظالم”، ذلك أنّ مهمته كانت رفع الظلم عن الناس، ورد الحق لصاحبه، وأيّا من كان المُدّعى عليه –رجل بسيط من عامة الناس، أو رجل من أكابر القوم، أو حتى القائد الأول في البلاد- كان القاضي محكوما بضميره والمرجعية القانونية في المجتمع، ولهذا لم يكن لوزن المتقاضين أي اعتبار في إصدار الحُكم. ولمّا اختل ميزان القضاء بدأ انهيار هذه الحضارة العظيمة.

لا يمكن أن يكون القضاء وظيفة في المجتمع السياسي المنظم، لأنه لو اكتسب هذا الوصف لكان لزاما عليه أن يكون تابعا للتوجيهات والأوامر.

كما أنّ رجال القضاء يجب أن يكونوا من خيرة أبناء المجتمع علما وخُلُقا وأعرفَ بمجتمعهم ثقافة وتاريخا.

ثم يتم إعداد هؤلاء إعدادا يجعل العدل عندهم الهدفَ المبتغى، وأن تُضمَن حياتهم ومعاشهم فلا يكون القاضي موضوعا للضغط والابتزاز والتهديد والتوجيه.

وما لم تتوفر هذه الشروط والقناعات وتصبح واقعا مُعاشا وملموسا، فإنه لا يمكن الاطمئنان لدور هذه المؤسسة حتى ولو أُطلق عليها اسم “قصر العدالة”.

إنّ قانون الانتخابات إذا لم يتناسق مع التنظيم القضائي من ناحية الدرجة والآجال وحجّية الأحكام، فإن دوره في العملية الانتخابية قد يكون مطعنا في العملية برمّتها، وقد يكون في أفضل الظروف شكليا وسطحيا.

3- الضمان الفعلي للحقوق والحريات الفردية والجماعية.

عرفت الحقوق والحريات الفردية والجماعية تطورا مُطَّرِدا من ناحية النصوص في القوانين الأساسية للدول. ولم تكن بلادنا استثناء من ذلك، لكن الواقع المُعاش لا يعكس هذا التطور إنما اتُّخذ هذا التطور متّكأ للاعتداء على الثوابت المجتمعية وحربا ضد مقومات الهوية الحضارية لكثير من الشعوب والأمم.

لقد تبيّن أن هذه الحقوق والحريات سلاح ذو حدين، يُشتكى به ويُشتكى منه، بل وصل الأمر في أحايين كثيرة إلى اتخاذه مضادا للوحدة والسيادة الوطنية.

متى شاءت السلطات التضييق على حريات الناس تحججت بالمصلحة العليا للبلاد، ومتى شاءت التنظيمات الشعبية المدنية المدسوسة المساسَ بالنسيج الاجتماعي والثقافي والوحدة الشعبية والترابية احتجّت بحقوقها وحرياتها الفردية والجماعية.

إنّ مثل هذا الشد والجذب ينكشف بصورة أوضح بمناسبة الانتخابات وفي جميع مراحلها، لاسيما مرحلة الترشيح والدعاية الانتخابية ويوم التصويت. وفي هذه المناسبة بالذات يتم الإخلال بأولوية التزام المؤسسات الدستورية بصلاحياتها لأنها ترى –وربّما كانت محقة في ذلك- أنّ مصلحة الوحدة الوطنية فوق كل اعتبار قانوني وسياسي وأنّهم وحدهم أقدر على التحكم في هذا الموضوع من غيرهم.

وهكذا تكون العملية الانتخابية موضوع تدخُّل يشكك في شفافيتها ونزاهتها ثم الطعن فيها وعدم قبول نتائجها.

إنّ شعار السيادة الشعبية والتنصيص على أنّ السيادة للشعب وأنه وحده مصدر السلطات، قواعد عامة وقناعات سياسية راسخة. غير أنّ التمكين لهذه القواعد والقناعة هو محل خلاف إجرائي وتنظيمي، لهذا كان قانون الانتخابات أكثر القوانين عرضة للتعديل والتغيير. كما أنّ الحاجة ماسّة لوجود انسجام وتكامل بين كل القوانين ذات الأثر السياسي كقانون الإعلام والأحزاب السياسية وتنظيم المجتمع المدني والحياة النقابية وقوانين التظاهر والإضراب والتنظيم القضائي وكل النُّظُم ذات العلاقة بتنظيم المجتمع والدولة لأن مصلحتها تنصبّ في خيار شعبي يجب أن يكون منضبطا واعيا وحرا.

وما لم تتوفر هذه الشروط كلها، فإنّ العملية الانتخابية حتى وإن كانت مطابقة إجرائيا يوم الانتخاب إلى القوانين والنظم، فإنّ نتائجها من الناحية السياسية والموضوعية مثيرة للريبة ودافعة لعدم الارتياح.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!