الرأي

لا ثقة.. حتى في الوثيقة؟

محمد سليم قلالة
  • 4074
  • 7

كانت الكلمة هي وعنوان الرجل و المرأة، ورأسمال البائع والشاري، وكانت الثقة هي روح العلاقات الاجتماعية والسياسية في بلادنا، عندما كان المجتمع متوازنا من حيث القيم والأخلاق والآداب العامة… وجاء زمن تم العَبَثُ فيه بقيم الأمة باسم المصلحة والمنافسة والانفتاح على العالم ضمن إطار سياسي جديد سُمّي باقتصاد السوق والديمقراطية، فتدحرجت الكلمة إلى أدنى مستوى وفقدت قيمتها في الترتيب التصاعدي للقيم، لدى من أصبحوا يصفون أنفسهم بالرجال بدل الرجال وبالنساء بدل النساء وبالتجار بدل التجار وبالسياسيين بدل السياسيين وهلمجرا..ورفعوا لذلك شعارا جديدا يقول: لا ثقة إلا في الوثيقة.. ثم جاء زمن ثالث وتم فيه العبث حتى بالوثيقة عندما اكتشف الناس أنهم حتى وهم يملكون الوثيقة يتم الغدر بهم ولا يُعترف لهم بقوتها أمام قوة السلطة والمال والنفوذ والحيل والخداع… بداية من عقود الأحوال الشخصية إلى قوانين الجمهورية إلى الدستور أسْمَاها جميعا.. هل من عودة جديدة إلى الثقة قبل الوثيقة وإلى الكلمة قبلهما معا؟؟ ذلك هو السؤال.

ليس من السهل إعادة بناء قيم المجتمع بعد أن تكون الأيام والسنوات قد عصفت بها إلا إذا بدأ ذلك من أعلى هرم في السلطة ورموزها وعناوينها الرئيسة التي يعرفها الجميع. لا يمكن للناس اليوم أن يثقوا في الكلمة ولا وفي الوثيقة ولا في استعادة ذلك الترتيب التصاعدي السليم للقيم إلا إذا ما تم الشروع في ذلك من أعلى أو مكّننا الله تعالى من ذلك بقدرته التي لا تعلوها قدرة…

كيف بأمة يتم تفصيل الدستور أمامها تفصيلا حسب المقاس، وحسب المستجدات، وهو أعلى وثيقة تم الاتفاق الشرعي والقانوني بشأنها، أن تثق في ما دونها من قوانين وأوامر وتوجيهات؟ كيف بأمة تعرف أن القوانين ـ كوثائق ـ يتم العبث بها كما يريد فلان أو علاّن بل وكما يتناسب مع أهوائه النفسية وصحته وسقمه وما يراه هو صحيحا أو غير صحيح، أن تثق في باقي الوثائق من الشهادة الطبية إلى الشهادة الجامعية إلى شهادة البرلمان والمجلس الدستوري حامي قوانين الجمهورية؟ 

لا أظن أن ذلك ممكنا إذا لم يتم تدارك الأمر قبل فوات الأوان وبهذه المناسبة بالذات.

إن أساس بناء الدولة هو في استعادة الثقة بين الحاكم والمحكوم.

لقد سأل التلميذ “تسي تونغ” معلمه الحكيم الصيني “كونفوشيوس” ذات مرة: أي من مقومات الدولة لا يمكن الاستغناء عنها إذا كان ولا بد من الاستغناء عن إحداها تباعا (العسكرية أم الاقتصادية أم الثقة)؟ أجاب الحكيم: الثقة لأننا إذا فقدنا الثقة لم يبق أي أساس للدولة.

أي أن كل شيء سينهار ذات يوم إذا انهارت الثقة ليس فقط في الوثيقة إنما في الكلمة والموقف والقرار..

ألا نلاحظ بأننا غير قادرين على تصديق الأرقام التي يتم الإعلان عنها أو الوعد بتحقيقها في أي مجال من المجالات…(السكن، الصحة، البطالة، النمو، نتائج الانتخابات…الخ)، ألا نلاحظ بأن رياح الشك تهب علينا من كل جانب حتى كدنا نستسلم للأمر الواقع ويُعلِن أغلبنا على الأقل:دعوهم يفعلوا ما يردون أو ما يُؤمَرون..

تلك هي مشكلتنا الرئيسة التي ينبغي أن تعالج اليوم، ومفتاح العلاج هو في انتخابات حرة ونزيهة.

من غيرها لا يمكننا الشروع في استعادة الثقة ولا أقول استعادتها تماما..

من غير أن يدخل الجميع هذه الانتخابات بحظوظ متساوية لا يمكننا أن نزعم الشروع في تصحيح ما فسد..

كل ما سيُقال سيكون بمثابة الهراء ومضيعة لوقت آخر ثمين نحن في أمس الحاجة إليه.

يكاد الناس اليوم يجزمون أن الانتخابات القادمة ستكون مزورة لا محالة وأن الرئيس الحالي سيفوز دون شك إذا ترشح.. مادام قد ترشح، في تأكيد تام بأنهم فقدوا الإرادة في التجديد وحتى في التفكير في جدوى التجديد، وتلك مصيبة أعظم.

هذه الحال تنبئ أن الداء قد استفحل في عقول الناس ونفسياتهم إلى درجة أن شل الإرادة في التفكير والفعل ودفع نحو خيارين لا ثالث لهما: إما الاستسلام التام أو الفوضى غير المحدودة. وكلاهما أسوأ من الآخر، كلاهما يلغي عامل العقل والحكمة والقدرة على التفكير والابتكار وإيجاد الحلول، كلاهما يمنع من التقدم ويربك مجال الرؤية.

ولذلك تجدني أقول إنه لا بد من انتفاضة في الوعي قبل أي شيء آخر لصياغة رؤيتنا من جديد دون خوف ولا وجل ولا يأس. انتفاضة في وعي الذين يحكمون والذين لا يحكمون، لأن كلاهما مصيره الفناء إذا ما انهار أساس الدولة: الثقة.

ينبغي لنا أن ندرك هذا اليوم قبل أي وقت آخر ونعلم ذلك البعد الاستراتيجي للانتخابات القادمة إذا كنا بالفعل نريد الخير لوطننا ولأمتنا ونريد استعادة أعمق سلام وأفضل استقرار لا يمكن أن يعبث به أي كان.

لا يمكننا أن نعتبرها انتخابات كالسابقة لأننا على وشك قطع خط اللاّرجعة إلى مجال الثقة بين الحاكم والمحكوم. إذا ما تمت الانتخابات القادمة بالشكل التي يُراد لها به أن تتم، حيث يعبث بها الفاعلون كما المرات السابقة فإن كل السياسات التي ستنبثق عنها لن تحقق غاياتها. كل الأرقام والإنجازات التي سيوعد بها الناس ستكون حبرا على ورق، كل الرجال والناس الذين سيتم اختيارهم لن تكون لهم المصداقية الكافية للقيام بما وعدوا به، بل وسيعقدون حالة انعدام الثقة في الكلمة والوعد والوثيقة والرقم وكل شيء سينتج عن ذلك… بما في ذلك الدستور الجديد المتوقع أن يكون توافقيا وجامعا مانعا…

وسنخسر سنوات أخرى عبثا، وسنبقى فقط معتمدين على ما بقي من موروثنا الحضاري الذي لم يتمكنوا من العبث به لحد الآن لأنه فوق قدرتهم كبشر.. هذا الموروث الذي لولاه لانهار كل شيء في بلادنا.. حيث هناك ثقة واحدة لم يتمكن أي كان من زعزعتها من قلوبنا ولا من عقولنا هي الثقة في الله تعالى وفي كتابه المنزل. لولا ثقة الجزائريين في الله تعالى التي لا تتزعزع بأنه هو الحافظ لبلدهم من كل الشر، ولولا ثقتهم في قرآنهم الكريم بأن لا أحد قادر على تغييره لينزع من يشاء في الحكم أو يبقى من يشاء في الحكم، لانهار كل شيء.

الحمد لله أننا نملك ما نعود إليه عندما تتيه بنا السبل، ولولا ذاك لقلنا إنها النهاية القريبة بعد أن أصبح كل شيء مباحا أو كاد يصبح أمرنا نسيا منسيا إلى يوم الدين.

لولا هذا اليقين، بأننا سنخرج من هذه الحال بقدرة قادر.. لأَغمضنا عيوننا وتوقفنا عن البحث عن رؤية مستقبلية لبلادنا.. بل وتوقفنا عن العمل لنعيد الاعتبار ذات يوم لسلم قيمنا حيث تسود مرة أخرى الكلمة والشرف والثقة… لولا هذا اليقين لسلّمنا أمرنا إلى الرويبضة واللاعن للقوم والمثير للنّعرات ومن كان على شاكلتهم وسار على دربهم..ثم توقفنا حتى عن الحديث…

مقالات ذات صلة