الرأي

لا مكتبة ولا وردة

ذكرت جريدة الخبر أن الأستاذ عز الدن ميهوبي، مدير المكتبة الوطنية قال بمناسبة تدشين مكتبة الأمير عبد القادر في شارع العربي ابن مهيدي: “إن الكتاب أصبح يحتل مكانة هامة في حياة الإنسان الجزائري(1)”

لو قال هذا الكلام وزير من الوزراء، أو سياسي من السياسيين أو مدير من المديّرين، لا صلة له بعالم الثقافة والفكر والكتاب لما ألقيت له بالا ولااعتبرته من لغو الحديث؛ ولكن أن يقوله الأستاذ عز الدين ميهوبي الشاعر، الكاتب، هو الذي لفت نظري، وجعلني أعنى به، وأهتم له، لأن هذا القول – في علمي- لا يعبر عن الحقائق المرة، التي إن أخفاها السياسيون وكبار المسؤولين، بمختلف ألوانهم وأصنافهم لطبع فيهم أو تطبّع منهم فما ينبغي للعلماء والمثقفين أن يخفوها، بل عليهم أن يجهروا بها، ويصارحوا شعبهم، لكي يكون الناس على بينة من الأمر، أليس العلماء والمثقفون رادة، والرائد لا يكذب أهله.

إن الذي أشهد به، وأنا ممن يمشون في الأسواق، ويجوسون خلال الجزائر هو أن حظ الكتاب من اهتمام الانسان الجزائري هو الحظّ الأتعس والجد الأوكس.

إن بعض الأقوال المشيدة بـ “اهتمام” الجزائري بالكتاب تستند إلى ذلك العدد من الناس الكبير نسبيا الذي يُيَمّم المعرض “الدولي” للكتاب لمدة أسبوع، كأنه “زردة” موسمية.

إن ذلك الجمهور الذي يبدو كبيرا نسبيا، خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة حيث يقام المعرض “الدولي” للكتاب في “ڤيطون”، كثير منه (الجمهور) لا تراه إلا متدافعا على كتب الطبخ لـ “شُميشة” المغربية، أو “منال” المشرقية، وعلى الكتب التي تنشر الخرافات باسم الكرامات، وتذيع الجهل كما يقول الحاج الحبيب اللمسي شفاه الله.

يُتاح لي أحيانا أن أدخل دور بعض من يعدهم الناس من أولي الألباب، وهم لا يشكون عوزا، ولا ضيقا، ولكن عينّي لا تقعان على ورقة، فضلا عن جريدة، أو مجلة، أو كتاب، كأن تلك الدور محرّمة على الكتاب وماله صلة بالكتاب، فأروح أردد سرّا قوح الشيخ أحمد سحنون رحمه الله:

ومن بنى دارا ولم يتّخذ مكتبة فيها فلم يرشد

إنني – عكس الأستاذ عز الدين ميهوبي – أرى أن الكتاب هو آخر اهتمامات الإنسان الجزائري، وقد نشرت إحدى الجرائد الوطنية منذ بضعة أشهر خبرا مفاده أن “عميدا” لإحدى كليات الآداب في شرق الجزائر “يتفاخر” بأنه لم يقرأ كتابا منذ عشرين سنة.. فإذا كانت هذه حال “عميد” لكلية الآداب فكيف هي حال الناس العاديين؟

يعلم الأستاذ عز الدين – لما بيننا من سابق معرفة – أنني لست غريبا عن عالم الكتاب، فقد عملت في الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، والمؤسسة الوطنية للكتاب إحدى عشرة سنة، ولم أنقطع عن عالم الكتاب، فأنا على صلة بعدد من الناشرين الجزائريين، وأعلم العدد القليل الذي يطبعونه من الكتب، كما أعلم ما يعانونه من أتعاب في تسويقه.. ولولا كتب شبه المدرسية التي يطبعونها لأفلسوا وغيّروا نشاطهم.. وما أكثر المكتبات التي أغلقت أبوابها، أو غيرت نشاطها في قلب مدينة الجزائر، فضلا عن المدن الأقل أهمية. وما ذهبت إلى مدينة من مدننا ولم أسأل عن المكتبات لعلني أجد فيها بعض ما يهمني من كتب، وكثيرا ما يكون الجواب مخيبا، وقد يدلونني على “مكتبة” حتى إذا جئتها وجدت كراريس، و”أكياس الشّمّة” القذرة.. – حاشاكم –

لقد ذهبت في شهر مارس الماضي رفقة جمع من الأساتذة إلى مدينة خنشلة بدعوة كريمة من شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، للمشاركة في الملتقى الوطني الذي نظمته عن “الأسرة ودورها في تربية النشء”.

إن المسافة بين المدينتين حوالي 200 كلم، وقد مررنا على عدة بلدات هي مقار دوائر وبلديات، فلما وصلنا إلى خنشلة قلت لمن كان معي: لقد لفت نظري أمر عجيب، فالتفت الإخوة يستنبئونني عن هذا الأمر العجيب، فقلت هم: إننذ لم أرد طوال الطريق مكتبة واحدة، بينما رأيت ما عين رأت من أنواع السلع مأكولا، ومشروبا، وملبوسا، ومركوبا….

علّق أحد الإخوة على كلامي قائلا: إن ملاحظتك ذكّرتني بملاحظة أخرى وهي أن أحد أبناء خنشلة مقيم في بلد أوروبي، تزوج امرأة من ذلك البلد، وجاء بها إلى الجزائر لتعرفها وتعرف أسرته.. وانتقلا برا من قسنطينة إلى خنشلة فلما وصلت قالت لزوجها: لقد عجبت من أمر هام… فقال مستفسرا: ممّ تعجبين؟ فقالت: لقد عجبت، لأنني لم أر طوال المسافة – وهي 200 كلم- وردة واحدة.. وعندما أخبرت أحدى الأصدقاء – وكان مسؤولا في إحدى البلديات- قال لي: إن أول وظيف ألغي في بلدياتنا هو وظيفة “الجنايني”.

إن أطفالنا الذين ينشأون في هذا المحيط لا بد أن ينشأوا أعداء للكتاب والزهور والأشجار.. فيفقدون أهم خصوصيتين في الإنسان وهما:

1- العلم والفكر والثقافة.

2- تذوق الجمال في صوره المنظورة والمسموعة والمشمومة، فيستمرئ المناظر القبيحة ()، والكلمات البذيئة(❊❊)، والروائح العفنة والكريهة.

إن شعبنا “المسلم” – ولو إسلاما وراثيا، كما يقول الإمام ابن باديس – لا يلقي السمع إلاّ إلى الخطاب المطبوع بالطابع الديني، ولهذا تلجأ إليه السلطة في المواقف الحرجة، ولذلك أدعو الإخوة الأئمة – لما بيني وبينهم من رحم دينية – أن يركزوا في خطبهم ودروسهم على هذين العنصرين – العلم والجمال- ولا شك في أنهم سيجدون الآذان المصيغة، والقلوب الواعية..

لقد علمت مؤخرا أن فضيلة إمام مسجد مالك ابن نبي في حي “مالكي” استنفر همم الشبان لينظفو ويُجمّلوا محيطهم وعماراتهم، فوجد منهم استجابة، وأقبلوا على تنظيف حيهم، وطلاء عماراتهم..

وبقدر ما فرحت لهذا الخبر “حزنت” لأن “علية” قومنا و”أكابدنا” الساكنين بجوار ذلك الحي، ويصلّون في ذلك المسجد لم يستجيبوا للخير، ولم يسارعوا إلى فعله؛ بينما سارعت سعادة سفيرة دولة النمسا – وما أدراك ما دولة النمسا – إلى ارتداء ثياب العمل وشمرت عن ساعديها وراحت تشارك الشبان في عملية التنظيف..

فشكرا لفضيلة الإمام، الذي لم يغرق ويغرق المصلين في عدد أجنحة جبريل – عليه السلام -، وفي قضية العقرب التي لدغت الإمام مالكا سبع عشرة مرة!! وفي قضايا لاتفيد في دين ولا في دنيا، وشكرا للشبان الذين لهم قلوب اهتزت لدعوة الخير، الشكر الأكبر لـ “لالاّنا”(❊❊❊) سعادة السفيرة، التي تحركت لتنظيفنا، وقد يقول قائل: “لقد سخرها الله لنا”.

.

هوامش:

1) جريدة الخبر في 6 8 2012 ص 18.

❊❊) ذكرت جريدة الخبر في 12 / 7 / 2012. ص21، أن “الغاشي” الذي حضر في السهرة الرابعة من مهرجان تيمڤاد ردد مرارا وتكرارا وبأعلى صوته: “الشعب يريد الزهوانية”… فيا ضيعة الأعمار والأموال والذوق السليم

❊❊❊) كلمة للاّ في اصطلاح المغاربيين تعني “سيدتي”

مقالات ذات صلة