لماذا الخوف من “السمعي البصري”؟
الجزائر هي البلد الوحيد الذي يخشى من فتح المجال للسمعي البصري أمام الخواص، في زمن العولمة، و”غوغل إرث”، والأقمار الصناعية المخترقة للخصوصيات، والشبكة العنكبوتية، وفي زمن الفيسبوك وتويتر، اللذين يستطاعا أن يفجرا عددا من الثورات الشعبية، في بلدان طغى فيها الصوت والرأي الأوحد على مدار عقود من الزمان.
-
وفي كل مرة نتحدث عن الإصلاحات، يُستثنى فتح السمعي البصري، حتى خطاب الرئيس الأخير تحدث عن قنوات موضاعاتية، واستبعد انفتاحا إعلاميا لهذا القطاع الحساس، وفي هذا التوجه محاولة يائسة لطمس الحقائق واستغباء الجزائريين دون مبررات مقنعة، والجميع يعلم أن تلفزيون الدولة الوحيد المسمى “اليتيمة” عاجز حتى عن الدفاع عن رؤى وتوجهات الحكومة، من خلال المبالغة أحيانا في التزلف و”الشيتة”، والخروج عن النص في الكثير من الأحيان، ومجانبة اهتمام الجزائريين، وحتى عندما فرّخت “اليتيمة”، وجدنا هناك 5 “يتيمات” تعيسات بائسات، مطلقات من طرف الجمهور، الذي يفضل أحيانا متابعة قنوات الحيوانات على الجلوس أمام فضاءات “اليتيمة”، التي لا طعم لها ولا ذوق ولا رائحة، ولا متعة على الإطلاق، مع احترامنا الشديد للكوادر الإعلامية التي يزخر بها التلفزيون، وهم زملاء مهنة لهم من الكفاءة ما من شأنه أن يحول “يُتم” اليتيمة إلى منارة إعلامية، يفخر بها الجزائريون، ولكن سياسة “كتم الصوت” وحجب الحقائق، والخوف من الرأي الآخر، والتوجس من البدائل والاقتراحات التي يزخر بها المجتمع، تجعل القائمين على هذا القطاع، أو لنقلْ سلطة القرار، يفكرون بطريقة “إعلام رديء أفضل من إعلام جريء ومشاكس” قادر على إزعاج الحكومة ومراقبتها ومحاسبتها، وهو بالضبط المطلوب من الإعلام النزيه في الدول الديمقراطية.
-
الذي لا تدركه السلطات، أن رداءة الإعلام الثقيل تدفع ثمنه الحكومة بالدرجة الأولى، لأن الشعب لا يمكن أن ينقم على الزميل كريم بوسالم ،أو منشطي الحصص الحوارية، أو حتى على مقدمي صباحيات، بل ينقم على حكومة تخنق الكفاءات الجزائرية، وتجبرها على تحجيم طموحاتها، والحديث بصوت خافت خائف متوجس.. أصوات مجبرة على تفضيل زيارات الوزراء إلى الولايات على تفاهة بعضها، عن تغطية كوارث البطالة وطوابير تشغيل الشباب، والاحتجاجات اليومية أمام المرافق الحكومية.
-
ولعل زيارة خاطفة إلى مختلف المقاهي الشعبية في 48 ولاية، تكشف لنا حجم الهوة بين الجزائريين و”اليتيمة” التي هي في الحقيقة صوت السلطة وصورتها في الشارع، فالقنوات الأجنبية تجتاح مقاهينا الشعبية، وحتى في البيوت، لا تكاد تجد مداومين على تلفزيون الحكومة، حتى في مقابلات الكرة وبرامج الرياضة.. وأمام هذه الصورة القاتمة، تصر السلطة على غلق السمعي البصري، وهي تعلم أن أغلب الجزائريين يتابعون أخبار بلادهم عبر القنوات الأجنبية، على مافيها من تحامل أحيانا، وغياب الموضوعية أحيانا أخرى، والأخطر من ذلك أن الخبر أصبح من السهل جدا أن يصل إلى الناس، حتى في القرى والمداشر، ومواطن بسيط يملك هاتفا نقالا وخط انترنت، بات بإمكانه أن يزود العالم بأخبار مصورة عن حيه أو قريته أو مدينته في لحظات، ولم يعد هناك مجال للتستر على أخبار الشارع وانفعالاته وتفاعلاته في زمن الفيسبوك، بدليل ما نشاهده في سوريا، وقبلها في مصر وتونس، ولعل صورة البوعزيزي وهو يحرق نفسه لم تنفرد بها لا الجزيرة ولا السي آن آن، بل صورها مواطن تونسي كان شاهد عيان، وأرسلها عبر شبكة التواصل الاجتماعي، وحتى كبريات القنوات الفضائية، نراها اليوم تستمد أغلب مادتها المصورة من مبادرات مواطنين، عبر هواتفهم النقالة والشبكة العنكبوتية؛ وعالم تضاءل إلى هذا الحد صورة وصوتا، لا مجال فيه لسياسة “كاتم الصوت” التي تدفع الجزائريين لمتابعة الاحتجاجات اليومية عبر قنوات فضائية أجنبية، بينما يرفع التلفزيون الرسمي شعار “كل شيء على ما يرام”، خاصة أن بعض الوزراء متعاقدون مع كاميرا التلفزيون، إلى درجة أن أحدهم احتجز موكبه مرة لساعات طوال في البراري، عندما علم أن فرقة التلفزيون لم تلتحق بعد بالموكب، وعندما نعلم أن أغلب تلك الزيارات شكلية، تُزفّت لها ومن أجلها الطرقات، وتُضاء لها الأنوار وتزين الأرصفة، ندرك أن الاحتقان الشعبي يأتي من هكذا سياسات عقيمة، تضلل الناس وتسوق لهم فقط الصور الوهمية، بينما الجزائر العميقة شيء آخر تماما، لا يعرفه ولا يعيش فيه إلا “شعيب لخديم”.
-
لا يمكن أن يكون لإصلاحات الرئيس بوتفليقة معنى إذا تواصل تجاهل فتح السمعي البصري، بل أكثر من ذلك، يتوجب على السلطة بجدية أن تفكر في الترخيص للقنوات الأجنبية المهتمة بالشأن الجزائري، والسماح لها بالاطلاع على الحقائق من عين المكان، عوض لجوئها إلى مصادر مفرضة، تصب الزيت على النار، فهم يتحدثون عن مسيرة السبت كأنها مسيرة مليونية، بينما لو كانت لهم مكاتب في الجزائر ويرون حجم تلك المسيرات، فسيكون الرأي العام الدولي على بينة مما يحدث عندنا، لا ضحية للتضخيم والتحريف، أما غلق المجال أمامها ثم نلومها لماذا تحاور وتلجأ لمعارضين “جزائريين” مغرضين بالخارج، فهذا بعيد كل البعد عن المنطق والعقل.
-
لسنا مع استباحة مجال الحريات وإعطاء الفرصة لمن هب ودب، داخل وخارج الوطن، لإنشاء قناة أو فتح مكتب، لكننا مع دفتر شروط يجعل من مصلحة البلاد خطا أحمر لا يمكن تجاوزه، هذه المصلحة غير قابلة للاجتهاد، بل تتعارف عليها الأعراف الدولية، ومعمول بها في كل الدول، وخارج هذا الخط، لن يُنجح الإصلاحات انفتاح إعلامي مدروس، يجعلنا نتجاوز أخطاء ”الصحافة المكتوبة” ونستفيد من دروسها ونجاحاتها.
-
لأن الذي صنع الفارق في الثورتين التونسية والمصرية، هو تلك الممارسات القمعية التي كانت تنزل بأصحابها إلى مستوى قطع خطوط الهاتف، وفضل الشبكة العنكبوتية، في زمن أصبح مفتوحا على بعضه كما أصابع اليد الواحدة.