لماذا لا توقف الدولة السكنات الاجتماعية؟
عندما يصبح مشروع الأمة هو بناء السكنات، والتباهي بالملايين المنجزة في المدن الجديدة التي لا جديد فيها، وعلى الأراضي الفلاحية والغابية، ويصبح همّ المواطن الوحيد هو الحصول على سكن، وتصبح مهنة رئيس الدائرة والبلدية هو توزيع السكنات بكل أنواعها، ويصبح دور مصالح الأمن فك القنابل الاحتجاجية عن السكن، فإن الدولة تكون قد أصرّت على الفشل الذي جعل البلاد تضيّع فرصة مالية “قارونية” من المستحيل أن تتكرّر مرة أخرى، قضتها في إنجاز السكنات بطريقة خبط عشواء، وتوزيعها بالمحاباة، دون أن تقضي على المشكلة، ويكون المواطن أيضا قد سقط في شبكة الاتكال، فضيّع العمر كله يلهث خلف مفتاح، قد يدخله في آخر العمر مسكنا، ويخرجه من إنسانيته نهائيا.
الدولة تتناقض بشكل مريع مع خطابها وما تسميه برامجها، فهي تتحدث تارة عن الاهتمام بالفلاحة، والسعي للاكتفاء الغذائي الذاتي لفك الاستعمار النفطي الذي قيّدها، وفي نفس الوقت تشجع بطريقة مباشرة نزوح أهل الأرياف نحو المدن ليودعوا أرضهم ويبيعوا شياههم، ويبدؤوا رحلة ما يسموها بحقوقهم في المدن بحثا عن عمل، ولو كحارس ليلي أو فوضوي للسيارات، أو بائع متجول، ويبني كوخا على جوانب المدن ليتحوّل بعد ذلك إلى صاحب حق في مسكن في مدينة لن تمنحه سوى مزيدا من العذاب، وتمنح أهل المدينة مزيدا من الترييف، وتدفع البلد إلى مزيد من الضياع، فلا بقيت لنا مدينة ومتحضرين، ولا كانت لنا قرية وقرويين، وللأسف ما صارت لنا دولة وسكان.
فشل سياسات الإسكان المتعاقبة، ولّد جيلا من الساكنين، الذين حوّلوا السكن إلى ثروة تتضاعف قيمتها من سنة إلى أخرى، وولّد جيلا من المواطنين الذين صاروا يسيؤون للجزائر، عندما يقطعون الطرقات على الناس ويهدّدون بالانتحار حرقا، ويعتصمون مع عائلاتهم بحجة الحصول على حقهم في السكن، وولّد جيلا من المسؤولين لا وظيفة لهم، ولا قيمة لهم، في المجتمع، سوى كونهم يمتلكون سلطة توزيع المفاتيح على من شاؤوا من البشر، وولّدت نماذج سكنية ومدن هجينة، نأسف ونحن نقول بأنها أسوأ من سكنات بناها الاستعمار الفرنسي، في مدننا منذ قرابة قرنين من الزمن، وأهل العاصمة وقسنطينة ووهران وبقية المدن الكبرى يعلمون بأن سكنا بُني في القرن قبل الماضي، أغلى ثمنا وأجمل هندسة وأأمن وأسلم من سكن بُني في السنوات، وربما في الأشهر والأيام الأخيرة، وتبقى البلاد تدور في نفس الحلقة، فلا هي أسكنت الناس، ولا أسكنت هذه الثورات الربيعية وفي كل الفصول التي صارت علامة جزائرية بامتياز، لأن بلدان كثيرة في العالم أسقطت وزارة السكن من حكوماتها، وغالبيتها لا تطرح فيها مشكلة تسمى السكن، وهدف البقية تطوير السكن وتطوير المدينة والتمدّن، وليس بناء الجدران والأسقف في علب في أراض، نصرّ على أن نسيمها مساكن في مدن.