-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا يجب أن لا نغيِّر العملة أو نحذف أصفارها في الجزائر؟

د. عمر هارون
  • 2291
  • 0
لماذا يجب أن لا نغيِّر العملة أو نحذف أصفارها في الجزائر؟

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبسبب معاهدة فرساي، كان الألمان يحرقون الأموال للتدفئة عليها، لأن حجم الأموال اللازمة لشراء كيلوغرام واحد من الفحم في تلك الفترة كان يشتعل لوقت أطول من الفحم المشترى به. وإستمرّ الوضع حتى نهاية 1923 إذ عادت ألمانيا إلى قاعدة الذهب.
في فنزويلا سجّلت العملة المحلية مع نهاية الـ2021 واحدا من أدنى مستويات التضخم في تاريخ البلاد بوصوله إلى قرابة 700 بالمئة، بعد أن حذفت البلاد 06 أصفار من العملة المحلية “البوليفار” (عملة فنزويلا) وهي المرة الثالثة خلال 13 سنة، إذ سجل التضخم في كراكاس الـ200 بالمئة نهاية 2023، وكان أهم إجراء اتخذته فنزويلا لحل أزمة عملة “البوليفار” إصدار عملة إلكترونية تحت اسم “بترو” في فيفري 2018 وهي التي دُعّمت بأسعار النفط والتعدين في البلاد، وهو ما جعل التضخم يصل إلى حدود 100 بالمئة مطلع السنة الجارية.
الهند بدورها كان لها تجربة مهمة في استبدال العملة خلال نوفمبر 2016؛ إذ صدر قرار مفاجئ من رئيس الوزراء بإلغاء ورقتين من العملة المحلية تمثّلان 86 بالمئة من السيولة المتداولة في السوق، خطوة كان الهدف منها القضاء على السوق السوداء والعمل على الرفع من الوعاء الضريبي والضرائب المحصَّلة، لكنها كادت تعصف بالسلم الاجتماعي في البلاد وتُدخلها في أزمات كبيرة نظرا للطوابير التي ظهرت أمام البنوك والصرافات لإستبدال هذه الأوراق خاصة أن آخر أجل للعملة كان نهاية السنة.

آخرُ الدواء الكيّ
كثيرا ما تصاعدت أصوات تنادي أحيانا بتغيير العملة الوطنية وأصوات أخرى بتغيير قيمتها، والظاهر أن هذه الأصوات لم تكن تحسب بشكل جيد الواقع الذي يحتّم الذهاب إلى هذه الخطوات، وهي الحالات المتطرفة من التضخم أو ما يُعرف اقتصاديا بـ”التضخم الجامح” أو في حالة عدم قدرة الدولة على التحكُّم في الاقتصاد الوطني وخروج الأمور عن السيطرة.

تعدّ هذه الأسواق مرحلة تجريبية لتعميم العملية على كل القطاعات والمجالات، مع ضرورة التحول نحو رقمنة الفوترة في الجزائر وهو ما سيعطي نتائج تاريخية، ويبقى إطلاق العملية ممكنا بشكل تدريجي بتحديد بعض القطاعات في المرحلة الأولى التي لا تربطها علاقة مباشرة بالمواد الاستهلاكية وواسعة الاستهلاك، ثم تعمَّم التجربة وفق رزنامة محددة المعالم. إن هذه الإجراءات إن تم إتخاذها مستقبلا ستساهم في تأطير الاقتصاد الوطني وتطويره.

والواقع في الاقتصاد الجزائري يختلف تماما عن الحالات التي سبق ذكرها، بل إن الجزائر اليوم تعيش في حالة استقرار اقتصادي تشهد عليه التقارير الدولية خاصة ما تعلق بتقرير البنك الدولي، وما طُرح في بداية المقال من أمثلة لا يمكن مقارنته بتاتا بالوضع في الجزائر الذي يشهد تراجعا في المستوى العامّ للأسعار، ويمكن مع الميكانيزمات الموجودة اللجوء إلى آليات أقلّ حدة في معالجة المشاكل التي تعترض الدينار الجزائري الذي استطاعت الدولة الجزائرية الرفع من قيمته بشكل مقبول وصل إلى 4.5 بالمئة مقارنة بالدولار الأمريكي.

ما هي خصوصية الدينار الجزائري؟
إن الدينار الجزائري يتبع سياسة صرف تدعى “المرن المقيد”، أي أن بنك الجزائر يسمح للدينار بالتغير في مجال محدد وفق مرافقة حثيثة تسمح للبنك بمتابعته بطريقة تضمن للاقتصاد الوطني عدم استيراد التضخم من العالم الخارجي، كون الاقتصاد المحلي لا يزال في مرحلة تطوير وبناء، هذه الاستراتيجية ترافقها استراتيجية أخرى تتمثل في التحكم في الواردات الجزائرية، مما يجعل حجم العملة الصعبة التي تخرج من الاقتصاد الوطني مضبوطة بشكل جيد، ويرافقها ارتفاعٌ في حجم الواردات من المحروقات الذي فاق السنة الماضية الـ55 مليار دولار وصادرات خارج المحروقات قاربت 7 مليار دولار خلال السنة الماضية مع طموح للوصول 10 مليار مع نهاية السنة الجارية، كل هذا جعل ميزان المدفوعات رابحا، وحجم إحتياطي الصرف يعادل 72 مليار دولار، مما يعني أننا نعيش في هذه المرحلة أريحية مالية تظهر في الرفع من قيمة الدينار أمام الدولار كما سبق وشرحنا، لكن تخيل معي بقاء المتغيرات الحالية على حالها مع دخول مناجم الحديد والفوسفات والزنك والرصاص في كل من تندوف وتبسة وبجاية حيز العمل والتصدير، كما ستكون صادرات الجزائر خارج المحروقات؟ كل هذا سيزيد من قوة الدينار الجزائري، نعم، الرهان اليوم على تقوية الاقتصاد الوطني من خلال استغلال عوائد المحروقات في هذه العملية، والتوجه نحو ضمان الأمن الغذائي من خلال توسعة المساحات المزروعة بالقمح لتدخل ضمن هذه الاستراتيجية التي تجعلنا نقلّص صادراتنا من القمح التي كانت تبلغ 2.7 مليار دولار خاصة بعد ارتفاع أسعاره خلال جائحة كوفيد 19، مع العمل على الرفع من الاستثمار المحلي والأجنبي في قطاعات مختلفة كما هو الحال في مشروع “بلدنا”.
كل هذا سيجعل السوق المحلي يشهد عرضا سلعيا أكبر من الطلب، وهي الحالة التي ستنخفض فيها الأسعار أكثر، مما يجعل مستويات التضخم تنخفض هي الأخرى، ومعها سيكون أمام الاقتصاد الجزائري الفرص السانحة نحو بداية عملية تعويم الدينار بشكل تدريجي، وهو الأمر الذي يمكن أن يكون مع نهاية 2027 في حال بقيت وتيرة الإصلاحات في المنحى نفسه، فالعالم أصبح ينام وينهض على المفاجئات غير السارة للأسف ولنا في أزمة الكوفيد 19 مثال ودليل.

خطوات مرحلية لتقوية الدينار
هناك الكثير من الخطوات التي يجب أن تُتّخذ خلال المرحلة القادمة من أجل مرافقة ما تقوم به الدولة للرفع من قيمة العملة المحلية، ولن أركز طرحي على السياسات المالية والنقدية المتعارف عليها، بل سأحاول أن أكون عمليا من خلال طرح مجموعة من الإجراءات التي يمكن أن تصدر خلال قانون المالية القادم لمرافقة الاصلاحات الهيكلية التي باشرت بها الجزائر خلال المرحلة الماضية والتي سبق وسردتها.

تحفيز المؤسسات
إن أهم ما يمكن أن يرفع من قيمة العملة الوطنية هو زيادة الإنتاج في الاقتصاد الوطني، وهذا لن يكون إلا من خلال استحداث أدوات تحفيز تتمثل في الأساس بجعل التحفيزات المالية في الضرائب والرسوم مستحقة من المؤسسات التي تتحصل عليها، من خلال وضع جدول يربط التحفيزات الجبائية بحجم رقم الأعمال المحقق وعدد العمال الذين تم توظيفهم، فلا مانع من منح تخفيض في حدود 30 بالمئة لمن استطاع توظيف 100 عامل ورفع حجم رقم أعماله بـ50 بالمئة.
وهذا النوع من الجداول طبعا يخضع لدراسة قياسية دقيقة تستطيع أن تحدد حجم مساهمة المؤسسة في تعزيز قوة الاقتصاد الوطني وما يترتب عنه من إعفاءات مقابل ذلك، هذا سيمنح للاقتصاد الوطني طفرة حقيقة خلال فترة لن تتجاوز السنة الواحدة.

تقليص حجم السوق السوداء
مشكل السوق السوداء واقعٌ لا يمكن الفكاك منه، والواقع يؤكد كل مرة أن الأمر أصبح بحاجة إلى مجموعة من الإجراءات القادرة على تقليل حجم هذه الفجوة، وأظن أن تنظيم هذا السوق يخضع لشرطين أساسيين، أوّلهما يتعلق برقمنة المعاملات المالية والرفع من حجم دورات الكتلة النقدية في الدائرة المصرفية، ومنع إتمام المعاملات المالية من خلال “الكاش” في أسواق قد تبدو هامشية لكنها مهمة كبداية، على غرار سوق السيارات المستعمَلة، وبيع وشراء العقارات، إذ تعدّ هذه الأسواق مرحلة تجريبية لتعميم العملية على كل القطاعات والمجالات، مع ضرورة التحول نحو رقمنة الفوترة في الجزائر وهو ما سيعطي نتائج تاريخية، ويبقى إطلاق العملية ممكنا بشكل تدريجي بتحديد بعض القطاعات في المرحلة الأولى التي لا تربطها علاقة مباشرة بالمواد الاستهلاكية وواسعة الاستهلاك، ثم تعمَّم التجربة وفق رزنامة محددة المعالم. إن هذه الإجراءات إن تم إتخاذها مستقبلا ستساهم في تأطير الاقتصاد الوطني وتطويره بشكل كبير.
تعيش الجزائر مرحلة تتميز بالاستقرار الاقتصادي، وإرتفاع مستويات العوائد، وهو ما يسمح لنا بإجراء مجموعة من الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد الوطني لتقويته بشكل أكبر، لأن قوة الدولة تقاس بصلابة اقتصادها الذي يُبنى بأيدي الأتقياء الأذكياء وقدرتها على حماية نفسها من التهديدات الأمنية والعسكرية، والحمد لله أن جيشنا الوطني حامي الحمى قد ضمن لنا الثانية، وأما الأولى فسنحققها وما هي عنَّا بالبعيدة لتوفر شروطها في قيادتنا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!