الرأي

لنكن على الأقل في مستوى إثيوبيا

محمد بوالروايح
  • 3507
  • 5
ح.م

“إثيوبيا”هو الاسم المعاصر لمملكة “أكسوم” القديمة، والتي ترجح مصادر تاريخية أنها تأسست عام 325 ق,م بقيادة السلالة السليمانية التي ترجع-حسب بعض الأساطير-إلى سليمان الملك وملكة سبأ، ثم تحولت في القرن الرابع الميلادي في عهد الملك “إيزانا” إلى مملكة مسيحية قبل أن تبدأ هذه الأخيرة في الأفول أمام المدّ الإسلامي في القرن السابع الميلادي.

و”إثيوبيا” الحالية في منطقة القرن الإفريقي هي “الحبشة”، التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم لكي تكون ملاذا آمنا للعصبة المؤمنة المهاجرة بقيادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه .كان اختيار “الحبشة”عن حكمة نبوية بأن هذه الأرض النصرانية هي أولى من غيرها باحتضان المستضعفين الفارين بدينهم وعقيدتهم. ودار الزمان دورته، فقامت على أنقاض المملكة النصرانية الحبشية القديمة دولة إفريقية حديثة هي دولة “إثيوبيا” الحالية، التي عانت في البداية من تأخر كبير لافت للنظر على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية بسبب السياسة الخاطئة التي انتهجتها النخبة الحاكمة في فترة من الفترات إلى درجة تحولت معها “إثيوبيا” إلى مثال حي للدولة الفقيرة التي تطوِّقها المجاعة من كل مكان، ولا يحظى فيها الإنسان بأبسط مقتضيات الكرامة الإنسانية.

كانت هذه صورة “إثيوبيا” في الزمن السيئ، الذي انتقلت فيه أخطاء السياسة إلى البيئة، ولكن الحكمة الإثيوبية التي نمت في الأوساط السياسية والشعبية استطاعت أن تقلب الأمور وأن تغيِّر الصورة السوداوية لبلد إفريقي تمزقه الصراعات والمجاعات إلى صورة جميلة لبلد إفريقي متطور، وتكفي إطلالة على المعالم الاقتصادية والسياحية والاجتماعية المنجَزة في “إثيوبيا” للتأكُّد من النهضة الكبيرة التي شهدها هذا البلد الإفريقي.

تمتلك إثيوبيا تنوُّعا بيئيا، تميزه على وجه الخصوص الغابات الاستوائية ومصادر المياه التي تأتي في مقدمتها بحيرة تانا في الشمال التي هي منبع ما يعرف بالنيل الأزرق، ولكن التنوع البيئي وحده لم يكن كافيا لصنع الثروة لو لم تواكبه إرادة سياسية وشعبية قادرة على التحكم في هذه الثروة وترشيدها وإدارتها وتوزيعها بما تتطلبه مقتضيات الحكامة الاقتصادية التي تصنع الفارق في كل الأحوال وتمكِّن طرفا من تحقيق التفوق الاقتصادي الذي يعجز عنه الطرف الآخر.

بالرغم من التنوع البيئي الذي تمتلكه إثيوبيا إلا أنها تواجه مشكلات سياسية واجتماعية، منها ما يمس باستقرار الدولة بطريقة مباشرة متمثلا في العنف الطائفي المتصاعد الذي تمارسه بعض الأقليات العرقية وفي مقدمتها أقلية الأورومو التي تشكل مواجهتها تحديا صعبا للدولة الأثيوبية وخاصة بوجود فضاءات الاتصال اللوجستية بينها وبين بعض الجماعات الانفصالية في بعض الدول المجاورة غير المستقرة أمنيا كما هو الحال بالنسبة للصومال وجنوب السودان.

بالإضافة إلى العنف الطائفي الذي تشهده إثيوبيا، فإن هناك عنفا اجتماعيا من نوع آخر، يتمثل في عمليات التصحير المتعمدة للمناطق الخضراء والرعوية من قبل بعض العصابات، وهي العمليات التي أسهمت في تقلص المناطق الخصبة وازدياد شبح المجاعة، كما يتمثل أيضا في بعض مظاهر الفساد المالي وخاصة ما يتعلق بإدارة سد النهضة والمشروعات الاقتصادية الكبرى.

واجهت إثيوبيا مظاهر العنف العرقي والاجتماعي والفساد المالي بحزم صارم وذلك بتكريس مبدأ الأمن القومي وتعزيز الحس المدني والتضامن الاجتماعي مما أدى إلى تقلص دائرة العنف العرقي وجعله تحت السيطرة، وإحالة عصابات الفساد المالي على القضاء بالسرعة القصوى.

واجهت إثيوبيا سياسة التصحير بعملية تشجير واسعة غير مسبوقة إفريقياً وإقليمياً، وهي العملية التي أشادت بها منظمات حماية البيئة المحلية والإقليمية والعالمية، والتي حوَّلت إثيوبيا التي تعني في اللسان اليوناني “الوجه المحروق” أو البنّي إلى وجه مشرق، ضاحك القسمات.

إن مبدأ الأمن القومي الذي أخذت به إثيوبيا كان قوامه المعاملة المتكافئة التي لا تميز بين منتسبي المؤسسة العمومية ومنتسبي المؤسسة الخاصة في تسليط العقوبة وتحميل المسؤولية، ومن مظاهر هذه المعاملة المتكافئة إزاحة شركة تابعة للجيش بسبب تأخيرات متكررة لإنجاز المشروع الذي بلغت تكلفته أربعة مليارات دولار.

ما أحوجنا إلى النموذج الإثيوبي في مجال التنمية ليس لأننا لا نملك التنوع البيئي الذي تمتلكه إثيوبيا، بل نصيبنا من هذا أكبر من نصيب إثيوبيا، والجزائر بالإضافة إلى ذلك بلد غني من حيث الموارد فكل أثقال الأرض ومعادنها موجودة فيها، ولكن تنقصنا إرادة التحدي وثقافة مقاومة الفساد المالي والاقتصادي مهما كان مصدره ولو من داخل مؤسسات صنع القرار أو من الأجهزة الأخرى المحتمية بها ضد المساءلة والمحاسبة.

إن مبدأ الأمن القومي الذي أخذت به إثيوبيا كان قوامه المعاملة المتكافئة التي لا تميز بين منتسبي المؤسسة العمومية ومنتسبي المؤسسة الخاصة في تسليط العقوبة وتحميل المسؤولية، ومن مظاهر هذه المعاملة المتكافئة إزاحة شركة تابعة للجيش بسبب تأخيرات متكررة لإنجاز المشروع الذي بلغت تكلفته أربعة مليارات دولار.

لم تكن إرادة مقاومة الفساد متاحة ولا مباحة في جزائر ما قبل الحَراك الشعبي لأن منطق العصابة كان مهيمنا على منطق الدولة، ولأن المصالح الشخصية كانت مقدَّمة على المصلحة العامة، ولكن جزائر ما بعد الحَراك الشعبي أبطلت سياسة الكيل بمكيالين وجعلت المواطنين الجزائريين سواسية في الحقوق والواجبات، فلم تعُد أبَّهة الوزير توفر له حصانة في حالة المساس بالمال العام، ولم يعُد المسؤول بمنأى عن المساءلة والمحاسبة كما كان إلى عهد قريب.

إلى هنا وبناءً على ما تقوم به المؤسسة القضائية في تعقب رؤوس الفساد، من حقنا أن نتفاءل بأننا لسنا عاجزين عن تحقيق معدلات التنمية التي حققتها إثيوبيا وخاصة إذا تمكنا من استرجاع الأموال المنهوبة التي أضرت بالاقتصاد الوطني عشرين سنة، فقد استغرقت إثيوبيا وقبلها ماليزيا وتركيا وقتا طويلا لإصلاح الاختلالات الاقتصادية التي سبَّبتها بالدرجة الأولى الاختلاسات التي قامت بها العصابات.

لا نملك في الجزائر نهرا كنهر النيل الأزرق ولا بحيرة كبحيرة تانا كما هو موجود في إثيوبيا، ولكننا نملك كثيرا من السدود، ولكن ما قيمة هذه السدود إذا لم يكن لها مردودٌ على الجانب الصناعي والفلاحي؟ فالسدود تنتشر اليوم في أماكن كثيرة من الجزائر ولكنَّنا لم نستثمرها بالكيفية المعقولة في الإنعاش الزراعي على الأقل اقتداءً بما تفعله إثيوبيا التي استغلت مياه سد النهضة لتحقيق ثورة زراعية وصناعية. ما الجدوى من بناء السدود ونحن لا زلنا نعول في معيشتنا على ما يأتي من وراء الحدود؟.

نحتاج في الجزائر إلى ثورة غابية كتلك التي حدثت في إثيوبيا وبكفاءة عالية، هذه مجرد أمنية لأن الحقيقة صادمة تفسِّرها الأرقام المرعبة التي تذيعها مصالح الحماية المدنية والمصالح الأمنية عن حجم الخسائر من الشريط الغابي الذي ورثنا أغلبه من القرون الماضية. ما بالنا نخرب بيوتنا بأيدينا في الوقت الذي يهبُّ فيه الإثيوبيون وعن بكرة أبيهم لغرس ما لا يُعدُّ ولا يُحصى من الأشجار حفاظا على البيئة ودعما للتنمية؟

نحتاج في الجزائر إلى فلسفة عمرانية عقلانية تمكِّن من إحداث المدن الذكية كتلك التي أقيمت في إثيوبيا التي شُيِّدت بها مناطق سكانية ذكية بالمعايير الدولية المطلوبة في حين نبتلى فيه نحن الجزائريين بعمارات سيئة المنظر والمخبر والتي يسهم بعضنا في ترييفها من خلال بعض السلوكات غير الحضارية التي تحوّل مداخل العمارات وساحاتها إلى ما يشبه القبو أو بيوت الشعر التي بناها الإنسان في عصر ما قبل الحضارة.

مقالات ذات صلة