-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لننتهِي من ازدواجية الفكر والممارسة على الصعيد العالمي

لننتهِي من ازدواجية الفكر والممارسة على الصعيد العالمي

يراهن البعض على هزيمة روسيا في أوكرانيا لتأكيد انتصار الأنظمة الديمقراطية على غيرها من أنظمة العالم. ويعتبر آخرون أن أي انتصار لروسيا في حربها في أوكرانيا، وأيُّ تمكُّن لها من تحرير “دونباس” سيكون بمثابة التأكيد لانتصار الأنظمة الفردية غير الديمقراطية. وتُعَدّ هذه مغالطة لا حدود لها، ليس فقط على مستوى الممارسة السياسية، إنما أيضا على مستوى الفكر السياسي.

لماذا اعتبرت أوروبا بأنظمتها الديمقراطية المختلفة تفكيك أوصال يوغوسلافيا سابقا إلى دويلات عملا متناغما مع حرية الشعوب والتعددية السياسية؟ لماذا عملت الولايات المتحدة ومازالت تعمل إلى اليوم على تقسيم سوريا وليبيا كما فعلت مع السودان وتفعل مع العراق واليمن، وتعتبر ذلك من صميم الرسالة الديمقراطية؟ وقس على ذلك باقي بلدان العالم التي تَدخَّل الغرب فيها وشجّع الانقسامات بها ومازال يسعى إلى تقسيمها بناء على حسابات اقتصادية وجيواستراتيجية.. لماذا يُعَدُّ ذلك متماشيا مع التعددية والديمقراطية في العالم، في حين يُعَدّ اعتراف روسيا بجمهوريتي “دونيسك” و”لوغانسك” عنوانا للهيمنة وسيادة الدكتاتورية؟

وينطبق الشيء ذاته بشكل أوضح على فلسطين: لماذا يعدّ الغرب الضمّ القسري للأراضي الفلسطينية وتهويد القدس، وإقامة نظام تمييز عنصري واضح بكافة الإقليم الفلسطيني عملا مشروعا، بل ويعتبر السلطة الصهيونية التي تمارسه “رمزا للحرية والديمقراطية”، ويصنِّف كل مَن واجهها من مقاومين متطلعين إلى تحرير بلادهم “إرهابيين” ينبغي القضاء عليهم؟!

أيُّ منطق غريب يحكم الممارسة السياسية الدولية اليوم؟ وهل يمكن الحديث بالفعل عن وجود فكر سياسي واحد للأنظمة الديمقراطية الليبرالية على الصعيد الدولي؟

إن ممارسة السياسة في الميدان تُبيِّن بالفعل نهاية هذا الفكر واضطراب الممارسة المرتبطة به. إن الأنظمة الغربية في الواقع إنما تقوم اليوم بالفعل على ازدواجية متناقضة في الفكر السياسي والممارسة الميدانية: فما هو حقٌّ مشروع لشعوب أوروبا ليس بالضرورة هو الحق نفسه لشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللَّاتينية، وما هو حريةٌ للشعوب الأوروبية ليس حريةً لباقي الشعوب، وما يعدّ تدخلا إنسانيا مشروعا للغرب هو اعتداء غير إنساني بالنسبة لغيرهم؛ بمعنى أن ما يحق لرؤساء أمريكا وفرنسا وبريطانيا وغيرها من العواصم الأوروبية لا يحق لرئيسي روسيا والصين أو أيِّ دولة أخرى خارج نطاق منظومة التحالف الغربية.

وهذا السلوك الغربي ليس ابن اليوم، بل كان سائدا منذ قرون خلت تعود إلى ما قبل الهيمنة الرأسمالية على العالم؛ ففرنسا تعلن الحرية والمساواة والأخوَّة شعارا لها في نهاية القرن الثامن عشر، وبعدها تعتدي على الشعوب الإفريقية والآسيوية وتحتلّها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ولا تعترف لها لا بالحرية ولا بالمساواة ناهيك عن التعامل معها بأخُوّة، والشيء ذاته بالنسبة لبريطانيا والولايات المتحدة وباقي القوى الأوربية: أثناء الممارسة يختلف الفكرُ لديهم جميعا عندما يكون خارج نطاقهم الحضاري.. يُبَرِّر السلوك العدواني على الآخرين كلما كان ذلك خارج إقليم المنظومة الفكرية الإغريقية ـ الرومانية المتحالفة أخيرا مع الصهيونية، ويُدينه عندما يكون إسلاميا أو كنفوشيوسيا أو إفريقيًّا، أو روسيًّا… أو بأي لون حضاري آخر غير الغربي.

ولذلك نجد هذا الغرب اليوم يعادي الأدباء والفلاسفة الروس بنفس درجة معاداته للأدباء والفلاسفة المسلمين. يعدّ هؤلاء وهؤلاء أنصارا للتطرف واللاتسامح والحكم الفردي، فقط لأنهم نتاج محيط حضاري خارج مركزية أوروبا الموسّعة لأمريكا وكندا في القرنين العشرين والحادي والعشرين.

لذا يصبح من أولوياتنا اليوم أن نسعى إلى بلورة فكر سياسي وممارسة سياسية متطابقين يأخذان بعين الاعتبار تاريخنا وواقعنا ووجودنا. لقد بات واضحا أن العالم لا يؤمن إلا بمن فَرَض نفسه فكرا وممارسة، وعلينا القيام بذلك، إذا كنا نأمل بحق أن تكون لنا مكانة في المستقبل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!