-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ماذا أكتب؟

التهامي مجوري
  • 4098
  • 8
ماذا أكتب؟

أصعب ما يصادفني في كتابة هذا المقال في كل أسبوع عندما أكون في سفر، حيث أن السفر نفسه تعب، وذهن مشوش، واضطراب في تغيير الكثير من العادات، التي اعتدتها حياتي الخاصة والعامة، ثم إن السفر لا تتغير فيه عادات المسافر فحسب وإنما تتطور فيه التعقيدات بتطور تعقيدات وجهة المسافر، من فارق الزمن إذا كان البلد بعيدا، وإلى اختلاف اللغة والعادات وتنوع مستويات المرافقين والذين يلتق بهم…، كل ذلك يؤثر على المرء وعلى حالته النفسية، وينعكس على سائر التصرفات، ورغم أن أبسط ما في هذه التغيرات، تغير العادات وتحولها من وضع معتاد إلى وضع آخر غير معتاد..، فإن المرء لا يسعه إلا التأثر سلبا بهذا الواقع، ولذا وجدتني في اليومين اللذين اعتدت التفكير والكتابة فيهما الموضوع الذي أكتب لموقع الشروق محروما من التركيز في اختيار وكتابة موضوع ما، وهما الخميس والجمعة، فيوم الخميس كان يوم السفر، والجمعة كانت يوم الوصول وما تبعها من الالتزامات تجاه الوجهة التي قصدتها، ومع ذلك غالبت نفسي في ذلك وفرضت عليها التفكير في اختيار موضوع ما؛ لأنني ملزم بكتابته، ولكن ليس أي كتابة.

وتصوروا معي أن أكثر من خمس ساعات في الجو وأنا أفكر في الموضوع ولكنني لم اهتد إلى شيء، ولكنني بمجرد أن وصلت إلى مطار الدوحة، الذي سنبقى فيه حولي ثماني ساعات، في رحلتنا هذه، تذكرت مقالا للأخ الطاهر الأدغم، كتبه منذ مدة عن قناة الجزية، بعنوان “قطر في الجزيرة أم الجزيرة في قطر؟” فجاءتني فكرة الكتابة عن قطر…، ذلك ان قطر دولة صغيرة ولكن أفعالها أفعال كبار، إذ بمجرد ما ينزل الإنسان من الطائرة ويدخل أروقة المطار إلا ويلاحظ أنه في دولة تحترم نفسها، ودولة قادرة على المنافسة في عالم السوق الدولية، صحيح أن المرء لا يصل إلى نتائج نهائية لبناء موقف نهائي من هذه الدولة في تصرفاتها وعلاقاتها وأعمالها، وتكون له صورة مؤثرة في قراره التهائي قبل أن يرى أي شيء في البلد؛ لكن المطار هو وجه البلاد.

ولكنني بعدما اخترت هذا الاختيار الأولي لهذا الموضوع، ترددت لأنني قلت في نفسي ماذا أكتب؟  أأكتب عن الإيجابيات أم عن السلبيات؟ ماذا اكتب؟ أأكتب عن هذا المطار الذي يعج به البشر وكأنهم في يوم الحشر، من كل العالم ويتكلمون بكل اللغات، ومن جميع الوان البشر ومعتقداتهم ومستوياتهم، الفقير والغني، العامل البسيط ورجل الأعمال والطالب والأستاذ…إلخ، وهذه الكثرة توحي بأن المرء في سوق رابحة، فمطار يعج بهذا الكم الهائل من البشر، فإن البلاد التي تحتضنه “دولة” لها برنامجها الاستثماري فيه، شركة الطيران والخدمات المقدمة فيها وتغطيتها لدول العالم؟ أم أكتب عن قطر التي هي اليوم محج المثقففين والسياسيين، بما تبعث وتنشط من مراكز بحث ودراسات وإصدارات وأنشطة سياسية وثقافية متنوعة؟ أم أكتب عن الجزيرة وشبكتها الموسعة التي غزت العالم العربي وأربكت الكثير من العلاقات الثنائية لقطر مع بعض الدول؟ أم أكتب عن أني بحثت واستمت في البحث في “مكاتب القطرية” بالمطار عمن يتكلم العربية ولكنني لم أجد، لأن عمال القطرية معظمهم آسيويين، واللغة المهيمنة هي اللغة الأنجليزية وليست الفرنسية التي يودعها الجزائرية في مظار هواري بومدين بالدار البيضاء؟ أم أكتب عما يثار عن قطر من أنها عرابة التطبيع مع العدو الصهيوني، والداعمة لخط الفوضى في العالم العربي بدعم أمريكي والخارجة عن الطوع العربي؟ وأخيرا ماذا أكتب؟ أأكتب عن بلد بحجم ولايات من ولايات الجزائر، تقوم بكل هذا الفعل المؤثر؟ أم أحقق فيما يثار عن هذه الدولة، من انها تقوم بأعمالها بتكليف أمريكي وتنسيق مع الصهاينة؟ 

ولكنني صرفت النظر عن الكتابة في هذا الموضوع، لعدم تمكني من الوصول إلى جميع المعلومات المطلوبة في الموضوع، وأرجأت التفكير فيه؛ لأنه موضوع شيق، يحمل في طياته خلاصة التجربة العربية بجميع أبعادها السلبية والإيجابية.. واستمر معي التفكير في الموضوع إلى الوجهة المقصودة بهذه الرحلة، وهي السودان للمشاركة في نشاط ثقافي نظمته هيئة علماء السودان.

حطت بنا الطائرة في مطار الخرطوم، ووجدنا مضيفينا في الاستقبال، ذاكرين ما بين الجزائر والخرطوم من روابط وأواصر اللحمة والأخوة، في “الجد وفي اللعب” على حد تعبير أستاذنا الدكتور عبد الرزاق قسوم..، فقررت ان أكتب عن السودان.، هذا البلد المضيف والغني بالتجارب الوطنية القومية، فالحزب الشيوعي السوداني كان اكبر حزب شيوعي في العالم العربي، وهيئات الحركة الإسلامية فيه من أقوى الهيئات في التوجيه الديني والاجتماعي. ولكن ماذا اكتب عنها؟ أأكتب عن المطار الذيحخطت به الطائرة؟ الذي هو مطار يشبه المطار؟ ام أكتب عن عدد المسافرين الذين رأيتهم في هذا المطار، كأنهم أهل بلدة التقوا في يوم العيد، فيسلمون على بعضهم البعض ويتباوسون، ثم يختفون عن الأنظار؟ مطار لا شيء فيه، لا مسافرين كثر، ولا ذهاب ولا إياب، بسبب الحصار المضروب على السودان منذ عقود. أم أكتب عن طيبة أهل السودان وطبيعتهم العربية، الكرم وحسن الضيافة، ودماثة الأخلاق وسهولة المعشر وسرعة الألفة؟

ام اكتب عن علاقتي القديمة جدا بالسودان؟ علاقتي بالمفكر الأستاذ أبو القاسم حاج حمد رحمه الله، ومتابعتي للرئيس جعفر نميري وهو يطبق الشريعة، والحركة الإسلامية وتجربتها النوعية، على يد التيار الإخواني، ثم الدكتور حسن الترابي، وتجربة الإنقاذ الوطني، وهي النظام القائم اليوم بالسودان، وأواصل البحث  في قصة محمود طه الذي أعدم وأنا قبل ساعات من الآن –زمن كتابة هذا الموضوع-  أجلس إلى جانب القاضي الذي حكم عليه بالإعدام ونفذ..، وبقيت أفكر فيما أكتب، والوقت يطاردني؛ لأنني لا بد من أن أبعث بالموضوع يوم الجمعة مساء في أقصى حد، ولكن يوم الجمعة هذا كان ضيقا، وهو اليوم الذي وصلت فيه إلى السودان، وبعد الجمعة والغداء ارتحت قليلا، ثم كان لنا لقاء مع مجموعة من علماء السودان، وامتد هذا اللقاء إلى جزء من الليل، ولما عدت إلى الفندق، وبدأت أفكر ما أكتب؟ وضرورة إرسال الموضوع الليلة، تعبت ولم استطع التركيز، فأرجات الموضوع إلى صباح السبت وقلت في نفسي، ختى إذا استطعت كتابة شيء الآن، فإن برمجته وتنزيله على الموقع سوف يكون غدا السبت، ونمت على أن أستيقظ في الصباح الباكر، قبل فطور الصباح فأكتب موضوعا وأرسله… ولكنني استيقظت ثلاث مرات على الأقل، ولم أستطع مغادرة الفراش؛ لأنني مرهق وتعبان وكل ما استطعت فعله هو أنني أطمئن نفسي بأنني سأكتب شيئا…، وفي هذا اليوم –السبت- وعلى الساعة الرابعة صباحا بتوقيت الجزائر، نهضت مجبرا نفسي على أن أكتب، ولكنني بكل ما أوتيت من قوة لم استطع التركيز واختيار موضوع مناسب والكتابة فيه، فبحثت عن أي شيء مناسب في “لفريغو” من مقالات مكتوبة في أرشيفي، واستسلمت للواقع

وقررت أن أكتب اعتذارا لإدارة المؤسسة وللقراء عن الكتابة، ولكن ماذا أقول في هذا الاعتذار؟ أأقول أعتذر عن الكتابة بسبب مشاركتي في نشاط مع علماء السودان؟ فمثل ئهذا النشاط هو المادة الرمادية للإنتاج الفكري والكتابة عموما، وليس العكس أن يعجز فيه الكاتب عن كتابة مقاله؟

وفي النهاية قررت ألا أكتب، وإنما أنقل للقارئ الذي يقرأ يوميا ما يكتب، ولكنه لا يحس ولا يشعر بمعاناة الكاتب وهو وفكر ويقرأ ويكتب، وربما اعتقد أن ما يقرؤه هو عبارة تصفيف للكلام وكفى، فكانت هذه الصورة لمعاناتي شخصيا في كتابة هذا الموضوع أسبوعيا، مغتنما فرصة السفر هذه، ولنا عودة لقطر والسودان ومعاناة الكتابة في مقالات لاحقة إن شاء الله.  

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • عيسى بن خرفية

    كم احبك شيخنا لقد تعلمت منك يوم كنت في جريدة العالم السياسي والأن اريد هاتفك ولي رقمي هاتفي 0672504189 وكم اريد أن تتصل بي والأن أنا رئيس الجمعية الجزائرية لإحياء الروح الوطنية للشباب والطفولة وان أنتضر اتصال منكم

  • ت ع السلام

    ما دمت تشارك مع علماء السودان والصومال واليمن وقطر اقول انها فكرة وقفزات للامام
    فقط تجنب علماء كوريا واليابان واسلاندا واستراليا وايرلاندا وامريكا واسرائيل لانه دول كافرة وليس لها مستقبل ولاعلوم
    الله ما سلط عليك قطر والسودان والسعودية و..

  • بدون اسم

    السلام عليكم
    شكرا أستاذ ...
    ... أن أكتب اعتذارا لادارة المؤسسة وللقراء عن الكتابة،
    دليل على الالتزام، تجديد وتعزيز العلاقة مع المؤسسة والقارئ،
    أسلوب حضاري
    الله يحفظك
    وشكرا

  • Hicine

    Enfin, pour une fois vous reconnaissez que vous ne trouvez rien à dire, car vous avez tellement usé jusqu’à l’os le discours monotone et anachronique sur la langue arabe et la religion musulmane pendant des décennies stériles que vous n’avez plus rien à dire. Aveu d’échec, passons maintenant à la réalité du monde et oublions la mythologie médiévale des bédouins de la presqu’ile arabe qui bloque le cerveau des Algériens. Merci.

  • R

    لقد كتبت و وصفت لحظات واقعية جميلة و مهمة لمن يقراها حقا دون ان يصدق عجزك عن الكتابة .. مراوغة حرفية جميلة اخي الكاتب و حالتك طبيعية .. و كلنا نحتار عندما ناتي لنكتب شيئ في المستوى المطلوب .. عن ماذا نكتب بصدق و امانة رغم كثرة الاحداث من حولنا .. كونها احداث كثيرة تبدو كلها و كانها شلالات تتدفق من اعالي الجبال الشاهقة لتصب في نفس الوديان الجارية نحوى البحار الهائلة حيث الاعماق الحائرة و الاسماك العائمة
    شكرا و بالتوفيق

  • Abdel

    Écrit sur l'économie Algérienne car si elle pleure elle fait engloutir tout le pays.

  • أستاذ مجوري موقف لا بد منه

    فضيلة الأستاذ مجوري،
    لقد استوقفتني جملة في خاتمة المقال: "...وإنما أنقل للقارئ..، ولكنه لا يحس..بمعاناة الكاتب وهو . ويكتب..."
    في رأي المتواضع أن هذا الشعور صادق (معاناة الكاتب) من قبلك يا أستاذ ولا أزكيك على الله. لكني لا أوافقك في مطلق العبارة على عموم الكتاب.
    أنا لا أبحث أن أحس معاناة الكاتب، لكن هناك بعض الكتاب لا يعانون في الكتابة بل يوظّفون أقلامهم من أجل تلميع شيء قبيح (كإيــ ..ران) أو أحزاب (الـ.. وّان)، أو النيل بالهمز واللمز والتلميح والتصريح من أشخاص أو رؤساء لا يوافقون هواهم.

  • بدون اسم

    صحيح يا أستاذنا... "الكتابة معاناة و ألم..." فالذي يكتب من دون إحساس فهو مجرد آلة كاتبة لا أكثر؟؟؟

  • ناصر

    بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين أخي الكاتب قل خيرا أو أصمت .... حتى كي تكتب لابد لك من وقت قد أستثمرته وانا ليس لي وقت كي أكتب ولكن مثلما قال أحدهم لكم وقتا طويلا مع الكتابة فما ذا غيرتم ولنا وقتا طويلا مع القراءة فماذا تغير بنا من حال ... وقد أعجز قول العقاد حين قال لا أحب أن أكون مروحة للكسالى .0.. ولي مبدا في الحياة عندما أشعر باني لاأقدم ولا أءخر شيئا بكتابتي فلا أكتب ... لذا فقاعدتي ونظرتي في الكتابة هي فن التغيير لا سياسة ملئ الصفحات وتزيين الطاولات المعارض لزيادة التهريج والتمريج ؟....

  • ت ع السلام

    قارن بين قطرك///بترول غاز قواعد امريكية نفاق تصهين... وليكس نبورغ luxembourg لاغاز لا بترول لا...
    ستعرف انك لاتحترم الجزائريين من غير العرب
    الكاتب يتحدث عن البنيان والاضواء ....و1مليون نسمة
    الدولة التي يحترمها الجزائريين من غير العرب هي الدولة التي تسير شؤونها بنفسها ولها اسلحة مصنعة محليا و........
    كوريا الشمالية مثلا

  • ابراهيم

    ليس شرط ارضاء العالم كله....اهم شيء ارضاء خالقك و ارضاء نفسك و من لهم عليك حقوق من الارحام...ثم صفي قلبك و خليك على طبيعتك..لا تؤذي الاخرين و اخدمهم قدر جهدك و لا تقدم كشف الحساب لأحد غير خالقك..و انتهى