الرأي

مالك حداد في سباق الانتخابات التشريعية

أمين الزاوي
  • 3467
  • 8

ما أحكيه لكم ليس بنكتة، هي الحقيقة بعينها، مرات كثيرات يريد المبدع المثقف أن يلعب في ملعب غير ميدانه، فيكون اللعب شبيها بمسرحية ساخرة ودرامية.

أحدثكم عن مصير كاتب اسمه مالك حداد، روائي وشاعر، حساس وشفاف، بعضكم يكون قد اطلع على بعض من نصوصه الروائية أو قصائده ومن بينها أذكركم بـ “الانطباع الأخير” “سأهبك غزالة” “التلميذ والدرس” “رصيف الأزهار لا يجيب” و…

أحدثكم عن مالك حداد عاشق قسنطينة التي خلدها في قصائده ورواياته، فكان وادي الرمال نقطة ارتكاز عاطفي للكاتب في الكتابة وفي الحياة.

في العام 1977 قرر مالك حداد أن يلعب في ملعب السياسيين، وهو الذي لم يتمرن سوى على رياضة الكتابة والقراءة ومعاشرة الكتب وامتطاء الطائرات الورقية للأحلام، وبذلك أقدم على الترشح للانتخابات التشريعية في صفوف حزبه، زمن الحزب الواحد.

من موقع متفرج خارجي، نقول: ما أسعد حزبا يكون في صفوف مناضليه والمنتسبين إليه كاتب بحجم مالك حداد، كما كان الشاعر أراغون مفخرة بالنسبة للحزب الشيوعي الفرنسي، حين كان هذا الحزب حزبا، فتنظيم سياسي يملك في صفوفه كاتبا عالميا اسمه مالك حداد هذا حدث تاريخي.

من موقع ومنطق المراقب الخارجي أيضا نقول: سيرفع الحزب هذا المبدع ليضعه في بؤبؤ العين، وسيجلسه المقاعد الأولى، إذ بمنح مالك حداد مكانة محترمة يرتفع الحزب درجات في عين التاريخ.

أحدثكم عن مالك حداد، وهو الأديب المتسامح المتصالح الحضاري المتحضر، والذي كان يختلف مزاجا وحدة وسلوكا عن كاتب ياسين الذي كان عنيدا صلبا ثائرا رافضا، وعلى الرغم من هدوئه وطاعته، إلا أنه لم يكن مرغوبا فيه من قبل كثير من دوائر السلطة.

ويعود هذا النفور من المثقفين إلى زمن الثورة، إذ كان يُنظر إلى المثقف بعين الريبة والشك والخوف وعدم الثقة من قبل القيادة العليا، وتاريخ الثورة يخفي كثيرا من أسرار هذا الصراع الذي وصل حد التصفيات الجسدية، مارسها السياسيون ضد المثقفين.

ولعل مصطلح “بُوعَرِّيفْ” الذي يطلقه السياسيون على المثقف له ظلال كثيرة، تبين الحذر من فكر “المثقف” وتكشف في الوقت نفسه “الاستهزاء” بأفكار ومفاهيم “المثقف”.

وكلمة “بُوعَرِّيفْ” هذه تعني فيما تعنيه، صاحب “لْفْهامَة” التي لا تدر نفعا ولا طائل من وراءها، وهي تعني أيضا “صاحب” الأفكار والفهوم التي لا علاقة لها بالواقع، بطبيعة الحال، الواقع كما يراه ويتصوره السياسي، وأعتقد أن بعض المثقفين الذين استطاعوا البقاء والتعايش والعيش داخل دوائر السياسيين الجزائريين قد تنازلوا عن كثير من “حسه الثقافي” وتخلوا عن “رؤيتهم النقدية” الثقافية للتاريخ والواقع وأذكر من ذلك مثلا: مصطفى الأشرف ورضا مالك ود. أحمد طالب الإبراهيمي وأسماء  أخرى… إني أشعر أن هؤلاء، على اختلاف توجهاتهم، لو أنهم احتفظوا بجلدهم الثقافي وبمواقعهم  الفكرية لكانوا قدموا للجزائر، ربما، أكثر مما قدموه لها من خلال مواقعهم  السياسية التي حَصَروا وحَشَروا فيها أنفسهم وأقلامهم وبالتالي قيدوا فكرهم وأصبحوا يشتغلون داخل آلة سياسية لا ترى فيهم سوى الاستعمال الوقتي حتى إشعار آخر.

وأعتقد أن الخوف من المثقف لم يتبدد بعد، بل لا تزال الطبقة السياسية الحاكمة في الجزائر تنظر إلى هذا الـ”بُوعَرِّيفْ” نظرة تساؤل واستهجان وحذر.

في العام 1977 قرر الروائي والشاعر مالك حداد الترشح للانتخابات التشريعية، واختار أن يتقدم لهذه الانتخابات في مدينة قسنطينة التي خلدها في كل رواياته، وفي شعره، فكانت هواءه ونفَسَه، وعلى الرغم مما أعطاه هذا الكاتب لهذه المدينة التي أصبحت جزءا منه، وأضحى رمزا من رموزها، كما هو الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومع ذلك لم ترحم قسنطينة الشاعر ولم تستطع أن تخلصه من نظرة الـ”بُوعَرِّيفْ” التي كان ينظر بها إليه من قبل حزبه. وأخفق مالك حداد في الانتخابات، ويقول الدكتور عبد حمادي ويؤكد ذلك الروائي بقطاش مرزاق، إن هذا السقوط في الانتخابات أثر عليه نفسيا وبشكل بالغ هو الذي عجل برحيله في جوان 1978 .

منذ إخفاق مالك حداد في الدخول إلى قبة البرلمان بعد أن خانته مدينته قسنطينة، أزيد من ثلاثة عقود مرت، مئات الأسماء، بل الآلاف، من “البرلمانيين” أتعبوا كراسي قاعة المجلس الشعبي الوطني “البرلمان أو الغرفة السفلى” بالتداول والقعود، بعضهم رحل و الآخر لا يزال، ولكن من منكم يستطيع أن يتذكر اسما خالدا خلود اسم مالك حداد؟ وهو الذي حتى من تحت التراب لا يزال يرفع تراب الجزائر إلى مراتب التقديس.

صحيح إن مالك حداد الـ”بُوعَرِّيفْ” لم يدخل البرلمان، لكن برلمانه كما سلطانه لا يزالان مستمرين بين ملايين قرائه الموزعين على العالم وفي كل اللغات.

مقالات ذات صلة