-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

متى نخلّص مدرستنا من عبث الدّروس اللّصوصية؟

متى نخلّص مدرستنا من عبث الدّروس اللّصوصية؟

لا تتوقف أقلام الساسة والفلاسفة والمفكرين والمربين عن تمجيد المدرسة والرفع من مقامها ومكانتها إلى ذرى السموّ والعظمة والرفعة. ولا نجد منهم اثنين، وإن تعاكست مشاربهم وتعاكست قناعاتهم، يختلفان عن دورها الريادي في صناعة وإضاءة وجه الأمم في غدها، وتسطير صفاء معالم مستقبلها.

من يقرأ التاريخ قراءة المتأني ثاقب النظر، يجد أن نهضات الشعوب في الشرق والغرب، وفي القديم والحديث واستفاقاتها من غفواتها ونهوضها من كبواتها لم تتحقق إلا بفضل المدارس. والقضية لا تحتاج إلى ذكر أمثلة للإثبات أو الوقوف على شواهد للاستدلال؛ فالمدرسة هي وسيلة ارتقاء الأفراد والمجتمعات وسبب تطوّرها وتقدمها وخلاصها من عوامل التخلف والعجز. وعندما نقرأ ما قيل من الأماديح في حق المدارس والإشادة بالتعليم، فلن نجد أصدق من القولين: (المدارس هي مصانع الرجال) و(التعليم هو تأشيرة المرور إلى المستقبل).

لا تُقبل الغفلة عن صون المدرسة من كل الخوارم والمفسدات والشرور التي تحيق بها، ودرء المنكرات التي تقلل من مردودها وتردئ منتوجها، وتلحق به الهلاك، لأن كل الإصابات المرضية يمكن التعافي منها إلا إصابات المدرسة. وليست الحروب والنزاعات والتهجير والبراكين والزلازل والأمطار والسيول هي التي تهدد المدرسة، وإن فعلت ذلك فبدرجة أقل وأخفض، أما مهددها الأكبر في أيامنا فهي بلية الدروس اللصوصية التي يتهافت على تقديمها أصحاب الضمائر المهزوزة والمرزوءة من المعلمين والأساتذة والمفتشين في كل المستويات.

إن إدخال الفكر والعلم إلى أسواق التجارة، والزج به في حظائر البيع، وجعل الربح المادي من أولى أهداف وغايات الفعل التعليمي من خلال الدروس اللصوصية أضلَّ  المدرسة عن طريق سيرها المستقيم، وجرّدها من دورها الرائد والنزيه المبني على مبدأ تكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد، وأخلّ بعملية الفرز التي تمنح التفوّق لمستحقيه.

وأمام عمليات الغش التكويني والتقويم المعتل  الذي تسببت فيه هذه الدروس، اضطرب سلم التصنيفات وانقلب رأسا على عقب، لأن مخرجات المدرسة في نهاية كل مرحلة تعليمية تعرّت من معياري المصداقية والجدارة، ولم تعد تعبّر عن الواقع بحقائق محفوظة. وكم يخنقنا العجب لما نجد بعض الأولياء يمجِّدون الدروس اللصوصية ويرون فيها الوسيلة التي أغدقت على أبنائهم الشهادات العليا في الطب بفروعه واللغات وفي بعض العلوم والاختصاصات الأخرى. فكيف يكون المستقبل الوطن مشرقا إن كان من يصنعونه تخرّجوا بالدروس اللصوصية التي حوّلت عقولهم إلى مطامير لطمر وتخزين المعارف الميّتة التي لا يجدون سبيلا ممنهجا لاستثمارها في أماكنها السليمة وسياقاتها الصحيحة؟. ومن هنا نسأل: هل يوجد مهدِّدٌ للوطن يضاهي في عدوانيته هذه الدروس الخديجة التي لا تقوم على أي قاعدة بيداغوجية مشروعة؟.

أمام هذه التشهير المبغوض للدروس اللصوصية التي كثيرا ما تمنح “التفوّق” الذي لا يُستحقّ لمن لا يستحقه، وهو تفوّقٌ مغشوش ومطعون فيه، ينسى المعلمون والأساتذة والأولياء أنهم يلحقون بالمتعلمين أشنع وأغلظ جريمة، وهي قتل قدراتهم العقلية ونحر مواهبهم وشنق مهاراتهم، وهي أعز وأثمن ما يملكون.

يتأسف المرء كثيرا لما يصادف معلمين وأساتذة، وهم كثر، قد انسلخوا انسلاخا كليا عن أخلاق المربي الفاضل والملتزم الذي يسير على هدي رسالة الأنبياء والرسل، وجردوا ضمائرهم من ذرات الإخلاص التي يتمتع بها المربون الأوفياء لرسالة التربية والتعليم، ورضوا أن يتنازلوا عن عزة أنفسهم، وصمّوا أذانهم عن الانتقادات التي تلاحقهم كوابل سيول المنحدرات. وأذكر أنني كنت أتحدث، ذات يوم، إلى “أستاذ” سمعت عن تهاونه الشديد مع متعلميه في الثانوية إلى درجة أنه كان يغش في أوقات الحصص، ولم يكن يكلف نفسه تصحيح إجاباتهم في الفروض والاختبارات، ويوزع عليهم العلامات جزافيًّا حسب معايير درجة الولاء الحضوري إلى المستودع الذي ينشط فيه بعد أن جمع همّه كليا في الدروس اللصوصية التي قدّمها حتى في أشد الأوقات حرجا لما اشتدّ داء الكُفاد (اسم الكُفاد ـ بضم حرف الكاف ـ الذي ينسجم مع قواعد اللغة العربية يقصد به: داء الكوفيد) في خلسة عن الأعين وفي مكان منزو، وقلت له: ما رأيك في ما قاله الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، في كتابه: “الحق المر”، والذي جاء فيه: (‏إن المعلم الذي لا يُغني تلاميذه عن الدروس الخصوصية في حاجة إلي توبة)؟. فلم أر على وجهه مسحة احمرار، ولم أسمع من شفتيه جوابا أو تمتمة. وأدركت أن قلبه مات، وأنه غير مبال بما يسبِّبه وأمثاله من شروخ عميقة وصدوع غائرة في حياتنا الاجتماعية. وعلمت أنه ضُرب بينه وبين الصدقة الجارية بسور مصمت من زمر الفولاذ الذي لا يستطيع أحد له نقبا أو تسلقا. ولما انصرف من أمامي، تساءلت: فيمَ يفيد هذا “المغبون” تحصيل الملايين وهو يساهم في تخريب أنفس ما يملك الوطن والتلاعب بأغلى أماناته، وهي المادة الرمادية في أدمغة أبنائه؟.

رغم سوداوية الصورة المترتبة عن استفحال ظاهرة الدروس اللصوصية المقلقة، إلا أنني متفائل بقرب نهايتها، والمؤشر الإيجابي الذي يدل على أنها لم تصبح قضية المعلمين والأساتذة والأولياء والتلاميذ فقط، يتمثل في وصولها إلى رواقات المجلس الشعبي الوطني. وهذا يعني أنها أصبحت تشغل المسؤولين في المستويات العليا، وأن اختمارها  في الأذهان مع مرور الزمن لن يكون إلا بوضع حدّ لها، وبترها كالبثرة المتقيّحة؛ لأنها لا تمثل، رغم تفاقمها واشتدادها، أمرا حتميا ينبغي الإذعان له والاستسلام لمساوئه كما يرى بعضهم.

استمعت إلى السيدة النائب التي طرحت أمام وزير التربية الوطنية مشكلة الدروس اللصوصية، وإن كنت أشكرها؛ إلا أنني تمنّيت لو لم يأت طرحها في صورة سجالية؛ لأن ما استدلت به من حيثيات للموضوع المناقَش لا يعبّر عن جوهر المشكلة التي حصرتها في الجانب الاجتماعي. ولعل سؤالها الذي كان يفتقر إلى الإجرائية الملزمة بكل وضوحها ودقّتها، خلّص الوزير من مشقّة الإجابة الصعبة، ومنحه مخرجا مريحا للرد.

أما جواب وزير التربية الوطنية، وحسب ما قرأته في إحدى الصحف السيارة، فقد جاء على النحو التالي: (… وفي رده عن سؤال حول منح الدروس الخصوصية للتلاميذ، شدد بلعابد أنه نشاط مخالف للقانون، لأنه يوفر لأصحابه مداخيل غير مصرّح بها، فضلا عن كونه يمارَس في محلات عشوائية وغير آمنة وغير مراقَبة على غرار المستودعات)، وأضاف يقول: (كما اتخذت الوزارة عدة إجراءات للحد من هذه الظاهرة كتحسيس التلاميذ وأوليائهم بعدم تشجيع هذه الدروس، ووضع كل ثقتهم في المؤسسة التربوية التي تبقى لوحدها مؤهَّلة لمنح تعليم ذي نوعية فضلا عن فتح المؤسسات التربوية لأبوابها في كل وقت والاستفادة من حصص الدعم وغيرها من التدابير).

إدخال الفكر والعلم إلى أسواق التجارة، والزج به في حظائر البيع، وجعل الربح المادي من أولى أهداف وغايات الفعل التعليمي من خلال الدروس اللصوصية أضلَّ  المدرسة عن طريق سيرها المستقيم، وجرّدها من دورها الرائد والنزيه المبني على مبدأ تكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد، وأخلّ بعملية الفرز التي تمنح التفوّق لمستحقيه.

أعتقد أن الشطر الأول من جواب وزير التربية الوطنية سيكون مقبولا ووجيها لو نطق به وزراء آخرون كوزيري المالية والداخلية. وأما شقه الثاني، وهو الأهم، فلم يكن فيه كفاية من الإقناع وفيض من الإشباع. ذلك لأنه يحمّل السوء للأولياء والمتعلمين وحدهم، وغضّ فيه طرف العين عن منبعه وهو المعلمون والأساتذة الذين سكن قلوبَهم جشعٌ وطمع لا يقاوَمان، وختم على عيونهم بغشاوات سوداء. وإذا كان التحسيس في ميدان الطب هو أسلوب يُلجأ إليه في البرامج الصحية للوقاية من الأوبئة والجوائح لما تصبح مهددة لحياة الناس، فكيف يصلح في مقاومة الدروس اللصوصية بعد أن استشرت وانتشرت وزاحمت المدرسة من جراء التغافل عن محاربتها في طور وجودها في مهدها؟.

وأما الحل الذي لا يناقَش ولا يُردّ فيقتضي أن تجنَّد لهذه الدروس كل الإمكانات لاستئصالها من جذورها كما يُفعل مع النباتات الدخيلة التي تزاحم المزروعات، ولو استلزم الأمر الاستعانة بأقوى المبيدات حماية لمدرستنا وتنقيحا لمخرجاتها. وإنّ من استصدر القوانين التي ألجمت ما يسمى “نقابات التربية” ووضعت الأغلال والأصفاد في معاصمها لا يُعجزه أن يسلك المسلك ذاته لغلق المستودعات والمغارات والكهوف التي تعدُّ بيئات تزدهر فيها الدروس اللصوصية للتخلُّص من كل مساوئها التي لا تعدُّ ولا تحصى بعد أن تغلغلت في كل جوانب حياة المتعلم العلمية والبيداغوجية والتكوينية والاجتماعية.

أمام الوضع الذي تعيشه مدرستنا، لا يمكن أن نجني ثمارا ناضجة على وجه الإطلاق من مساعينا، حتى ولو أخلصنا النيات في إعادة النظر في المناهج مضمونا وبناء وتخفيف المحافظ وتعلم اللغات الأجنبية ومراجعة أساليب التقويم وتطوير الفعل البيداغوجي، ولن نضمن تقدمها ما لم يتم وضع حد لهذا الوباء اللعين الذي لا يقدِّر ناشروه جسامة أخطاره المرهبة وفداحة مهالكه المروِّعة. فهل يعقل أن ننتظر مردودا وفيرا من بعد زراعة حنطة من سلالة ذهبية في أرض تزخر بأنفاق ومستعمرات النمل؟.

ستظل المدرسة هي البيت الذي يجمعنا كلنا، وإن من ماتت في قلبه غيرة الدفاع عن حرمتها والذُّود عن سمعتها والانتقام لشرفها لا يختلف أمره عن المفرِّط في وطنه. أليس الوطن مدرسة في المختصر المفيد؟ والكلام لم ينته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!