-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

متى يتمّ إلغاء رجم إبليس من مناسك الحجّ؟!

سلطان بركاني
  • 3681
  • 0
متى يتمّ إلغاء رجم إبليس من مناسك الحجّ؟!

تداول رواد مواقع التواصل في الأيام الماضية تغريدة كتبها أحد أدعياء التنوير في مصر يتساءل فيها: متى يتمّ إلغاء رجم إبليس من مناسك الحجّ؟ وهو التساؤل الذي يشي بضحالة الفكر الذي يختلج عقول أدعياءٍ يحسبون أنّهم على شيء ويلبسون لباس التّجديد والتّنوير والتفكير الإسلاميّ (!)، والواحد منهم لا يستطيع التّمييز بين ما هو من الإسلام، وبين ما لا يعدو أن يكون ثقافة شعبية فيها الغثّ وفيها السّمين!

المفكّر المشار إليه ينتظر من علماء المسلمين أن يجتمعوا ليعلنوا عن إلغاء شعيرة رمي الجمرات، على اعتبار أنّها طقس بالٍ لا طائل منه، لأنّ الشّيطان لا يتأذّى ولا يعبأ بتلك الحصيات التي يُرمى بها أيام التّشريق(!) وقد فاته أنّ وصف هذه الشعيرة بأنّها رجم للشّيطان، اصطلاح عامي لا علاقة له بنصوص الشّرع ومناسك الحجّ؛ فرمي الجمار ليس رجما لإبليس، إنّما هو تذكار رمزيّ لعداوة الشيطان، وهو محل يستذكر فيه الحاجّ المسلم كيف نجح نبيّ الله إبراهيم -عليه السلام- في الامتحان عندما أخزى الشّيطان وخالفه، ويقف مع نفسه وقفةً تحدوه لمراجعة علاقته بهذا العدوّ المبين الذي أقسم بأغلظ الأيمان على أن يضلّ ذرية آدم ويقودهم معه إلى جهنّم، مستحضرا وصية الحقّ سبحانه: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير)) (فاطر: 6).

لعلّها مفارقة عجيبة تدلّ على أنّ العقول يمكن أن تصاب بفيروسات أشدّ فتكا من الفيروسات التي تصيب الأبدان، أن تجد دعيّ فكر في زمن الثّورة الفكريّة يكلّ فكره عن فهم المغزى من شعيرة من شعائر الدّين الذي ينتسب إليه، بينما تجد عالما مسلما في القرن الثاني عشر الميلاديّ يقف بفكره عند جوهر الشّعيرة ويدفع الخوالج التي يمكن أن تكتنف العقل، يقول الإمام أبو حامد الغزالي -ت 1111م-: “وأمّا رمي الجمار؛ فاقصد به الانقيادَ للأمر إظهارًا للرق والعبودية، وانتهاضًا لمجرد الامتثال من غير حظٍّ للعقل والنفس فيه، ثم اقصد به التشبه بإبراهيم -عليه السلام- حيث عرض له إبليس -لعنه الله تعالى- في ذلك الموضع ليدخل على حَجِّه شبهة أو يفتنه بمعصية، فأمره الله أن يرميه بالحجارة طردًا له وقطعًا لأمَلِهِ.. فإن خطر لك أنّ الشيطان عَرَضَ له وشاهده؛ فلذلك رماه، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان؛ فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان وأنه الذي ألقاه في قلبك ليُفَتِّرَ عزمَكَ في الرمي، ويخيل إليك أنه فِعْلٌ لا فائدة فيه، وأنه يضاهي اللعِبَ فلم تشتغل به! فاطردْه عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه برغم أنف الشيطان، واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة، وفي الحقيقة ترمي به وجهَ الشيطان، وتقصم به ظهره؛ إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمرَ اللهِ -سبحانه وتعالى- تعظيمًا له بمجرد الأمر من غير حظٍّ للنفسِ والعقلِ فيه” (إحياء علوم الدين: 1/ 270).

من عجائب أدعياء الفكر والتنوير المعاصرين، أنّهم في الوقت الذي ينادون فيه بإعادة قراءة نصوص الشّرع، يصرّون -في المقابل- على قراءة بعض شعائر الدّين قراءة ظاهرية سطحية بعيدا عن جوهرها ومغزاها، ومن ثمّ يحكمون عليها بأنّها شعائر تجاوزها الزّمن! ولذلك فليس رمي الجمار هو الشعيرة الوحيدة التي يظلمها التفكير السطحيّ المعاصر؛ فالسعي بين الصفا والمروة -كذلك- يحتاج -وفق هذا التفكير الظّاهريّ- إلى إعادة نظر، على أساس أنّ أصله والحامل عليه الذي هو بحث هاجر عن الماء لرضيعها إسماعيل، لم يعد قائما الآن مع تدفّق مياه زمزم بالقرب من الصّفا والمروة(!).. هكذا يمكن أن يقود التفكير السطحي أدعياء التنوير إلى تمنّي إلغاء ركن من أركان الحجّ، بينما يقود التفكير المرتبط بالإيمان والمتعمّق في جواهر العبادات إلى اعتبار شعيرة السعي بين الصّفا والمروة رمزا لحسن التوكّل على الله وتعلّق القلب بخالقه لتفريج الكروب وتحقيق المرغوب، وتذكارا يلفت انتباه الحاجّ إلى عظيم نعمة الله على أهل تلك البقعة القاحلة وجزيل منّته بإخراج مياه عذبة لا نظير لها على وجه الأرض من بين صخور ما كان يُتوقع أن تتفجر بالمياه!

إنّ التّماهي مع هذيان أدعياء التنوير من حملة الفكر الظّاهريّ المعاصر ربّما يقودنا إلى المطالبة بإعادة النّظر في كثير من الشّعائر التي لا تجد لها بعض العقول تعليلا ولا تقف لها على حكمة، مثل عدد ركعات الصلوات الخمس، فالصلوات التي تقع في النّهار في وقت زحمة العمل ووقت التعب حقها -في ميزان الفكر الظّاهريّ- أن تكون ركعتين ركعتين، بخلاف صلاة الصبح التي تقع بعد النوم والراحة فيمكن أن تكون أربعا، وهكذا… لكنّ ما يقطع مثل هذا الهذر هو تمييز العقل بين التكاليف الشرعية المعلّلة التي تمثّل الغالب الأعمّ من الشريعة، وبين التكاليف غير المعلّلة التي يراد من خلالها امتحان العبد في تسليمه لأمر الله، ومعلوم أنّ التكاليف المعلّلة ترتبط بعلّتها وتدور معها، وقد تتغيّر أو تختلف بعض تفاصيلها بتغيّر الزّمان والمكان، كما حصل حينما عطّل أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- سهم المؤلّفة قلوبهم لمّا قويت شوكة الإسلام واستغنى المسلمون عن تأليف قلوب غيرهم، وحين فرض الخراج على الأرض المفتوحة، وقيّد الملكية الفردية، وحينما أنفذ طلاق الثلاث، وأجّل الزّكاة في عام الرّمادة وعطّل حدّ السرقة…

أمّا التكاليف غير المعلّلة، وهي قليلة بين الأحكام الشّرعية، فليس للعبد إلا أن يسلّم فيها لأمر الله وأمر رسوله، ويتعبّد الله بذلك، وله بعدها يجتهد ويعمل عقله في البحث عن عللها والحكم الكامنة خلفها؛ فإن وجد ما يزداد به إيمانه ويقينه حمد الله، وإلا بقي على تسليمه موقنا بأنّ الله لا يأمر إلا بما فيه خير الدّنيا أو خير الآخرة أو خيرهما معا، وقد يكون الأمر في ظاهره لا مصلحة ترجى منه في الدّنيا، لكنّ فيه مصلحة الآخرة، والآخرة خير وأبقى.. حاديه في ذلك قول الله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)) (الأحزاب: 36).

بقي أن نشير في الأخير إلى أنّ المفكّر المستنير الذي طالب بإلغاء ما أسماه “رجم الشّيطان” من شعائر الحجّ، لا يجرؤ -هو وأمثاله- على مطالبة بعض طوائف النّصارى بالتخلي عن طقس جلد الظّهور وإسالة الدّماء في عيد الغفران، فضلا عن أن يمتلك الجرأة على مطالبة اليهود بالتخلّي عن طقس النفخ في قرن الكبش في عيد رأس السنة أو طقس ذبح الدّجاج في عيد الغفران، كما لا يجرؤ على مطالبة بريطانيا -البلد الذي يراه أيقونة في التحضّر- بالتخلّي عن مراسم تتويج الملك وما تتضمّنه من طقوس تزري بالعقول وتُهدر فيها الأموال.. لكنّ دعيّ الفكر عندما يتعلّق الأمر بشعائر الإسلام لا يتلكّأ ولا يتردّد في المطالبة بإعادة النّظر في كلّ ما لم يحط به فكرُه خُبرا! لأنّه يعلم أنّ الإسلام أصبح كلأ مستباحا في أرضه، ويرى كيف أنّ القضاء في الدّول العربية يُخرج المتطاولين على دين الله من كلّ قضية ترفع ضدّهم كما تخرج الشّعرة من العجين!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!