-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

محاولة لفهم الأزمة الأخلاقية في الجزائر

التهامي مجوري
  • 7186
  • 1
محاولة لفهم الأزمة الأخلاقية في الجزائر

كنت أنوي الكتابة في ما خسرته الجزائر بسبب إلغاء المسار الانتخابي سنة 1992، بمناسبة هذه الذكرى الأليمة التي كلفت الجزائر الكثير، وأنا متأكد أن الجزائر خسرت الكثير بذلك القرار الخاطئ؛ بل أكثر مما لو ترك للتجربة أن تأخذ مجراها في التاريخ، ولكن عدلت عن الموضوع ورأيت أن الكلام عن المقدمات السابقة له أولى؛ لأن ما وقع سنة 1992، له أسباب عميقة وهي كثيرة ولكن أبرزها الجانب الأخلاقي، على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي.

والأخلاق في أصولها إما أن تكون دينا أو بقايا دين من الديانات السماوية أو الوضعية وهي من جهة أخرى ذات علاقة بجوهر التجربة التاريخية التي تعد من أهم مصادر الإنسان في فهم الكون والحياة على خلاف واقع العالم اليوم الذي تحكمه منظومة قيمية أخرى تختلف كل الاختلاف عما ألف الإنسان من قيم في حياته وفي تعامله مع الكون والحياة ولم يبق مما ألف الإنسان شيء إلا بقايا في المجتمعات الشرقية التي لا تزال تعتمد الدين والعرف والتقاليد في معاملاتها ولكن ضغط الحضارة الغربية على هذه المجتمعات لم يسمح لها إلا بالنزر اليسير من تأثير ثقافتها الموروثة على واقعها بسبب مطاردات الحداثة والعصرنة والعولمة لكل موروث ثقافي علمي ديني أخلاقي.

والمجتمع الجزائري لا يخرج عن هذه المنظومة التي فرضت نفسها بقوة الغلبة الحضارية على كل من كان خارج المركزية الغربية في ظل الاستعمار ثم في حركة الاندماج والعلمنة واللادينية وأخيرا بضعف منظومة الدولة الوطنية.

ولو حاولنا تقييم المسألة الأخلاقية في المجتمع الجزائري بعد الاستقلال لوجدنا أن الجزائري عاش خلال فترة الاستقلال [1962 – 2015] ردة متفاوتة المستوى ولكنها في تقهقر مستمر وانحدار متواصل على خلاف الفترة الاستعمارية التي كان فيها المجتمع -رغم الفقر والجهل والضعف- متماسكا بسبب رفضه للاستعمار وتنكبه لكل ما يأتي منه فحافظ بفضل هذا الرفض على وحدة منظومته الأخلاقية بدينها وأعرافها وأخلاقها بعد سقوط دولة الداي وهي منظومته التي عصمته من تقليد الفرنسي والتأثر بثقافته فبقي خلال 132 سنة منفصلا عن كل ما هو فرنسي لأنه قرر المفاصلة ابتداء ولم يجنح حتى لمجرد إمكانية ورود الخير من فرنسا أو الثقافة الفرنسية وقد سجل هذا المنحى الاجتماعي في مقولة تنسب لابن باديس رحمه الله وهي (لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله ما قلتها). 

ويمكن تقسيم هذه الردة والتقهقر إلى ثلاث مراحل أساسية تلمس فيها ملامح التخلي عن الأخلاق كقيمة اجتماعية تساعد على الاستقرار والتنمية

المرحلة الأولى 

من 1962 إلى 1982 وهي المرحلة التي أُسِّس فيها للتحلل من الأخلاق كقيمة اجتماعية عاصمة للمجتمع من الانحراف شعورا من المجتمع أن استعادته للسيادة الوطنية تكفيه شر الخوف من مكائد الاستعمار وما يمكن أن يبث فيه من مفاسد، والسيادة الوطنية من جهتها رغم أنها وضعت منظومة قانونية غنية بمستلزمات الحفاظ على المجتمع وقيمه ولكن الخطاب السياسي الاشتراكي يومها لم يكن مساعدا على تثبيت الأخلاق كقيمة مساعدة على الاستقرار والتنمية؛ بل العكس هو الذي ساد يومه، وهو أن الخطاب السياسي رغم وطنيته فإن المسحة اليسارية كادت تعريه من كل ما هو أخلاق، والشاهد على ذلك خطاب الرئيس بومدين رحمه الله في لاهور عندما قال ما معناه أن الفقير ينبغي أن يغنى الآن ولا ينتظر إلى أن يدخل الجنة أو كلام في هذا المعنى، صحيح أن الرئيس قال حقا فيما يتعلق بالاهتمام بالعدالة الاجتماعية ولكن العبارة المستعملة كانت تعبر عن نَفَس مجرد من الأخلاق حيث كان طرح الفكرة بمثابة الجنة مقابل الدنيا وكأن الجنة حقا مقابلة للدنيا أو أن الدنيا في مقابل الجنة في حين أن منظومتها الأخلاقية لا تفرق بين الأمرين لأن طلب الآخرة يحث على الاعتناء بالدنيا أيضا (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص 77]، في هذه المرحلة لم يتجرد المجتمع الجزائري من الأخلاق كلية وإنما بدأت تدب في مفاصله بعض القيم المضادة للأخلاق كالتخلي عن المسؤولية الفردية فلم يعد يشعر المواطن أن عليه واجبات كما كان يشعر بها في الفترة الاستعمارية، وشعوره بأن الدولة هي التي تحل محله فيما يريد، فألقى بكل الواجبات على عاتق الدولة بما في ذلك ما كان يعتقد أنها على عاتقه، والسلطة لم تشعر المواطن بضرورة تحمل تلك الواجبات في البناء الوطني وكأنها كانت تريد مكافأته على ما بذل في إنجاح الثورة؛ بل عن السلطة لم يكن يعنيها إلا إنجاح الخيار الاشتراكي، ومن ثم بقي المواطن يتحرك تحركا بطيئا في إطار نشوة الاستقلال والدولة الوطنية وكفى فتخلي عن شعوره بالواجب تجاه القضايا الشخصية والوطنية في جميع المجالات، فأكسبه ذلك قيما أخرى مضادة للأخلاق؛ لأن عدم الشعور بالواجب في أمر ما يؤدي إلى ضياع حقوق ما وضياع الحقوق يفضي إلى الخروج عن القانون والخروج عن القانون له أشكال متعددة ومتنوعة منها التحايل والكذب والوصولية والمحسوبية والرشوة ونهب المال العام، وبالمختصر المفيد استشراء الفساد، ولكن بحكم أن التخلي عن الواجب لم يكن طفرة واحدة فقد تخلى المجتمع الجزائري عن الأخلاق بقدر ما ترك من الواجبات الفردية تحديدا شيئا فشيئا إلى أن استشرى الأمر واستفحل، فصعب التحكم فيه.

المرحلة الثانية

وتمتد من 1982 إلى 1992 وهي المرحلة التي تجرد فيها المجتمع من قيمه الأخلاقية كمرجع في التعامل، ورغم أن خطاب الحركة الإسلامية في هذه المرحلة -مرحلة الصحوة- كان هو الخطاب المعول عليه في إعادة الأخلاق إلى المجتمع فإن الحركة الإسلامية استدرجت إلى معارك أخرى أيديولوجية وسياسية آنية فتحولت من معركة قيم وهي معركة حضارية وصراع غربي إسلامي إلى معركة سلطة، ومعركة جزئية لا هم لها إلا تصفية الحسابات الحزبية الجزئية في غياب ناظم أخلاقي يجمع بين فئات المجتمع.

في هذه المرحلة تحلل المجتمع من الالتزام الأخلاقي نهائيا سواء بتعويض الأخلاق بالقانون ومن ثم ما أمكن التحايل عليه بالقانون أضحى غير معيب أخلاقيا أو باسم السلطة وفرض القانون ومن ثم تبييض ساحة السلطة في إذلال خصومها أو باسم الشرعية الثورية، لدى فئة عريضة من المجاهدين الذين يمثلون الواجهة الوطنية، والشرعية الدينية للإسلاميين الذين يشعرون أنهم يمثلون أحكام الله، فيما يطرحون من قضايا، والشرعية السياسية للمعارضة، التي تعتبر نفسها الثقل الموازي للسلطة في ترشيد المجتمع، وهي شرعيات لا علاقة لها بالأخلاق إلا بالقدر الذي تقره بقايا عرف في المجتمع وهو ما سنلاحظ آثاره الوخيمة على المجتمع في المرحلة الثالثة والأخيرة 

المرحلة الثالثة

وتمتد من 1992 إلى 2017 وهي مرحلة التفسخ التي تحلل فيها المجتمع من جميع التزاماته بسبب فقدانه التدريجي لأهمية الفعل الأخلاقي في منظومته وقد ظهرت آثار ذلك خلال الأزمة التي مرت بها البلاد خلال 1992/1999 ولذلك لما وقع انفجار سنة 1992 وقع ما لم يكن يتخيله أحد، جزائري ولا أجنبي؛ لأن ما وقع لا يقع عادة إلا في الحروب بين الدول، بسبب انقلاب المفاهيم عند الجزائريين أنفسهم وبسبب تجردهم من القيم الأخلاقية التي كان عليها قبل ثلاثة عقود مثلا فتمددت المعاني الجزئية الفئوية التي لا تتسع للكل عاد، وأخذت موقع الصدارة في الحراك السياسي والاجتماعي، فمفهوم الحفاظ على البلاد مثلا تراه كل فئة وفق منظورها الفئوي أو الحزبي ومن ثم فقد تحركت الفئات وفق ما تراه من منظورها الجزئي وما تراه الفئة قد يختلف عما تراه فئة ثانية وما يراه فريق قد يختلف عن فريق آخر وهكذا…، بسبب غياب الناظم الاجتماعي الذي هو أخلاقي ابتداء، ولذالك رأينا من حمل السلاح ورأينا من فضل الحوار ورأينا من رأى إبادة الخصم هي الحل وطامة الطوام انشغال الأمة بمعالجة الأعراض عن الأمراض فاختزلت مشكلات الأمة كلها في مجرد أزمة سياسية وحصرت فيها، في حين أن الأزمة السياسة ليست إلا عرضا من أعراض المسألة الأخلاقية التي هي جوهر أزماتنا سواء في الجزائر أو في غيرها؛ لأنها تمثل عمق المسألة الحضارية التي تضعنا أمام حقيقة المواجهة الفعلية

المنطلق في كل إصلاح

وعندما يتضح لنا في هذه الوقفة العاجلة كيف تخلى هذا المجتمع الثوري عن قيمه الأخلاقية التي تعد الثورة من أهم مظاهرها؟ ندرك أن معالجة المسألة الأخلاقية هي المنطلق في أي إصلاح.

لا شك أن هذا الانحراف الأخلاقي الذي وقعت فيه الجزائر خلال عقود الدولة الوطنية وبلغ ذروته خلال سنوات 1992/1999، ليس خيارا ذاتيا حرا، وإنما ساهمت فيه ضغوطات المنظومة الدولية البراغماتية، التي تحكم العالم كما أشرنا في بداية هذا الحديث ولكن القرار الاجتماعي الوطني لم يكن بالقدر الكافي من الحرص الذي يحافظ على استقلاله، إذ يمكن صياغته بخيارات وطنية، فمثلما نشأت الحركة الوطنية على مكونات جامعة قبل الاستقلال، وأنجبت ثورة رغم أن ذلك كان في جو الميثاق الاستعماري في حكم المستحيل، يمكن صياغة منظومة أخلاقية جديدة لإعادة ما فقد المجتمع من قيم كقاعدة وأرضية للإصلاح

وأول ما ينبغي استحضاره في عملية الإصلاح وأخلقة المجتمع هو أن للمجتمع التزامات اجتماعية وسياسية تجاه نفسه وهذه تكفي فيها التوعية الوطنية عبر حملات التثقيف وصياغة البرامج الإعلامية والتنموية، وإشراك المجتمع في كل ذلك، بحيث ينخرط الجميع في إعادة صياغة الواقع والتقيد بالتزاماته الحضارية تجاه غيره، من غير استعلاء وتدني، مع الشعور بهذه الالتزامات، وبما بينه وبين هذا الآخر من فوارق عقدية وثقافية وسياسية، في إطار الالتقاء مع هذا الآخر على الإطار الجامع.

على المجتمع أن يعرف نفسه 

وفي الأخير على المجتمع أن يعرف نفسه؛ لأن المجتمعات الناجحة هي المجتمعات التي تمتلك في حيويتها وحركيتها فضول الأطفال ولعبهم وحيوية الشباب واندفاعه وتلاحمه وتكاتفه وتعقُّل الكهول وترددهم وخوف الشيوخ واحتياطاتهم للمستقبل، ذلك أن المراحل العمرية لها امتيازات متنوعة، فبمرحلة الطفولة تتميز باللعب والفضول والأنانية المفرطة، ومرحلة الشباب تتميز بالاندفاع والانخراط في الكل الجماعي، والكهولة تتميز بالتفكر والتريث والتردد، والشيخوخة يغلب عليها العجز.

وعندما يعجز المجتمع عن الارتقاء إلى هذا المستوى الجامع، فإنه لا يسعه إلا أن ينحصر في مرحلة من تلك المراحل مجتمعيا، في مرحلة الطفولة، أو في مرحلة الشباب، أو في مرحلة الكهولة، أو في مرحلة الشيخوخة. وإذا كانت أعمار الأفراد بما تتميز به كل مرحلة من فضائل ترى نتائجها في تفاعل الإنسان مع الطبيعة فإن توقف مجتمع ما عند مرحلة من هذه المراحل يعد منقصة لأنه لا يعقل أن يكون مجتمعا لاعبا لاهيا كما يلعب الأطفال أو مجتمعا مندفعا متهورا كما يندفع الشباب ويتهورون أو مجتمعا مترددا أو ضعيفا خائفا لا طموح له و لا أفق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • نجم الدين

    نسيت يا سيدتي الكريمة ريعا ءاخر كانت له نتائج وخيمة علينا و هو ريع القرصنةالذي دفعنا ولا زلنا ندفع ثمنه غاليا و شوه صورتنا امام الاجناس الاخرى الى الابد.