-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

محمد مراح، مات.. وما اسـتراح!..

علي بن محمد
  • 5161
  • 4
محمد مراح، مات.. وما اسـتراح!..

ليست هذه هي المرة الأولى ـ وللأسف، لن تكون الأخيرة ـ التي تبدو فيها غالبية من المواطنين مشدودة إلى حادث عالمي كبير، قد انصرفت إليه كل الأنظار في الدنيا، فجعلته المحطات الإذاعية والقنوات التلفزية في المستوى الأول من مفتتح أخبارها، واتخذته أشهر وكالات الأنباء في صدر ما تـُطيّر من البرقيات، وانتقته أكبر الصحف العالمية عنوانا بارزا لإصداراتها، طوال أيام كثيرة… ولكن وسائل الاتصال الجزائرية الثقيلة، وهي التي يُـقترض فيها أن تكون الأقربَ إلى اهتمامات الناس وانشغالاتهم، تـُعرض عن ذلك الحدث، وتعطيه ظهرها، حتى كأنه لم يقع أصلا… فإذا ما تنازلت، ومنحت هذا النوع من جليل الحوادث بعضَ عناية، أو شبه التِفاتة، جاء ذلك مُشوّها بالبتر والانتقاص، كمن يتصدى لفعـل شيء لا حيلة له في تلافيه، أو كمن أجْـبر على لقاء من لا يحبه ولا يطمئن إليه..

 

         فإذا لم يكن هذا الأمر لا مفهوما، ولا مقبولا، في سائر الحوادث الكبرى في العـالم؛ ونحن في عصر ما يسمى بالقرية الكونية… فإنه حين يكون وقوع تلك الحوادث في الجزائر، أو حين تكون ذات صلة قريبة أو بعيدة بالجزائر والجزائريين ـ أيـًّا ما تكون النقطة التي تقع فيها من الكوكب الذي نحن فيه ـ ثم تـُعامل بذلك القدر من الاستهانة والاستخفاف.. لا يمكن حينئذ أن يدل صنيع تلك الوسائل على شيء آخر غير أنها أصبحت، وهي المرافق الحيوية للأمة، مجردَ أدوات دعائية في أيدي السلطة، تستعملها في ما يخدم أهدافها ومصالحها، حَصْرا، غيرَ عابئة باهتمامات الشعب ومطالبه، ولا آبهة بما ينتظره ويرجوه منها.. وتلك مأساة مزدوجة، شطرُها الأول أن الشعب يكون قد حُرم من أداة وطنية تساعده على فهم ما يجري في وطنه وفي العالم، وشطرُها الثاني أن هذا الشعب سيُقبل، مضطرا، وذلك حقه، على وسائل الاتصال العالمية، وما أكثرَها، وما أسهلَ الوصولَ إليها، في أيامنا هذه، فتعطيَه ما يبحث عنه من المعلومات، ولكنها تقدمها له بعـد تكيـيفها، ومعالجتها، وإخراجها في القالب الذي اختارته لها. وكل ذلك طبقا لما يخدم ما لأصحابها ومموليها من الأهداف والمرامي. وليكن معلوما أنه في ميدان الإعلام،   كما في غيره من الميادين، لا يعطي أحدٌ شيئا ما، على الإطلاق، بالمجّـان؛ وأن لكل شيء ثمنـًا، قـلَّ ذاك الثمنُ أو كـَـثـُر..

         من أبسط مقتضيات الصدق، مع النفس أوّلا، ثم مع قرائنا ثانيا، تنبـيهُـهم منذ الآن، بأنه ليس في حوزتنا شيءٌ من المعلومات خارج ما هو موجود في الصحف، المحلية منها والعالمية، وما تمتلئ به المواقع الالكترونية على “الشـابـكة” (الإنترنيت) من الأخبار والتحليلات، على اختلاف جديتها، وقيمة ما تستند إليه من المصادر والشهادات..

 

ترتيب حوادث القتل وردود الفعـل الرسمية والإعلامية

         أولا ـ في يوم 11 مارس من السنة الجارية، نـقـلت وسائل الاتصال نبأ مقتل شاب في الثلاثين من عمره، يقيم في حي سكني من أحياء مدينة ولوز بجنوب فرنسا. ثم بعد قليل تبين أن الشاب القتيل جنديّ في إحدى فرق المظلات التابعة للجيش الفرنسي النازلة بهذه المدينة… ثم وردت أنباء إضافية تفيد بأنه كان على موعد مع شخص ما، كلمه في الهاتف صبيحة ذلك اليوم ليشتري منه دراجته النارية التي كان قد وضع بشأنها إعلانا لبيعها في أحد مواقع الإنترنيت المخصص لهذا الغرض.. وعندما التقيا في الموعد المحدد قتله الشاري المزعوم. ثم تبين أخيرا للمحققين بأن الضحية مسلم، وأن اسمه عـمـاد ابن زياتن”. وكان اللافت أن كل التصريحات، الصادرة منها عن الدوائر القضائية، والتي أدلت بها مصالح التحقيق الأمني، قد وضعت دوافع الجريمة تارة في سلة المخدرات، وتارة أخرى في سلة تصفية الحسابات الشخصية نظرا إلى كثرة ما للقتيل من علاقات نسائية. ولم يرد أبدا أي شك ما في ما قد يكون للقتل من صفة إرهابية..

         ثانيا ـ يوم الخميس 15 مارس، في مدينة مونتوبان، شمال تولوز، بينما كان بعض جنود المظلات، يقفون في طابور، أمام جهاز السحب الآلي للنقود، تقدم نحوهم شاب مسلح، وأطلق عليهم النار من مسافة قريبة، وفر ممتطيا دراجة نارية، من نوع “سكوتير”. وقد أرْدَى اثنين منهم في الحين، والثالث أصيب بجراح بالغة، ثم ما لبث أن التحق بصاحبيه بعد قليل. كل ما أسرع القائمون بالتحقيق الأوّلي إلى إعلانه هو أن السلاح المستعمل في الحادثة الأولى والثانية واحدٌ، وأعـطوْا مواصفاته الدقيقة.. وكان اللافتُ، هنا أيضا، أن التهمة المعلنة بحذر، موجهة طورا إلى دوائر المخدرات، وطورا إلى الدوافع الشخصية.. ولم تغب عن الاحتمالات، أيضا، لا فرضية العنصرية واليمين المتطرف، ولا فرضية “النازيين الجدد”. غير أنه من باب الحذر والاحتياط بدأ الرسميون، وفي مقدمتهم وزير الداخلية، يلمّحون إلى إن التحقيقات الأمنية لن تستثني أي احتمال، وأن كل الأطروحات واردة حتى علاقة الحادثين بتدخل العساكر الفرنسيين في الحرب الأفغانية..

         ثالثا ـ يوم الاثنين 19 مارس، في نفس الظروف بمدينة تولوز يتقدم شاب على الدراجة النارية نفسها من ثانوية مخصصة للتلاميذ اليهود ويطلق النار فيقتل أربعة من الواقفين أمام الثانوية، أستاذا وثلاثة تلاميذ.. ثم بدأ الحديث يتضح بعد حادث الثانوية عن احتمال الفرضية الإسلامية، وفجأة تجد المصالح الأمنية عنوان القاتل وتتعرف عليه بالتفصيل.

         إن الذي يستعيد تفاصيل حكاية هذا الشاب المَدعـو/ محمد مـراح، ويُعمل فيها المنهج العقلاني الذي اعتقد الفرنسيون أنهم أول من اهتدَوا إليه، حتى لقد اشتـقـوا له نعْـتا من اسم أحد علمائهم، فسموا ذلك المنهج “الـديكارتـية”، (أو “الكارتيزيانية” في لغتهم)، نسبة إلى واحد من أشهـر فـلاسفـتهـم الرياضيـين في الـقرن السابع عـشر، هوديكارت”.. إن الذي يستعيد تلك التفاصيل يجدها مليئة بعلامات الاستفهام التي تطرح بإلحاح كثيرا من الأسئلة التي لا يمكن تجاوزها بحال من الأحوال. فليسمح لنا الفرنسيون باستعارة نصيب من هذا المنهج الديكارتي منهم لنفحص، على ضوئه، بعض تلك المعطيات التي وَضعت ذلك الشاب المتهم بارتكاب المقتلة في صدارة أخبار العالم، باستثناء “بلده الأصلي”!..

 

قـصة محمد مراح.. رواية أم مـسرحية؟!

عندما يستعرض المراقب المحايد هذه الحوادث التي عاشتها منطقة تولوز، يقف مندهشا أما م مجموعة المعطيات التالية، التي لم تفد في شيء مصالح الاستخبارات الفرنسية في تحديد هوية القاتل، وإلقاء القبض عليه:

1ـ  ظل المتهم بالقتل مدة تسعة أيام كاملة، من 11 إلى 19 مارس، حرا، مطلق اليدين، يخرج مرتين، يومي 11 و15 منه، فيقتل أربعة من جنود النخبة المظليين، أحدهم صف ظابط، ثلاثة منهم في بدلهم الرسمية، قريبا من مساحة تجارية كبرى تعج بالمتسوقين، غير بعيد، عن ثكنتهم… ويهرب الفتى في كل مرة كأنه شبح، دون أن يقوى أحد على اعتراض سبيله، أو أن يدل على مخبئه، مع أن التحقيقات البَعْـدية لم تثبت أنه كان يحظى بدعم أية شبكة منظمة..!

2ـ في يوم 19 مارس، يتذكر المتهم وجود الثانوية اليهودية، في قلب مدينة تولوز، فيذهب إليها على متن فرسه الشهباء”، أعني دراجة السكوتير البيضاء نفسها، تلك التي عرف العالم كله أنه يتنقل عليها للقيام بمهامه.. فلا يكتفي بقتل من وجدهم عند الباب، بل يتبع تلميذة إلى فناء المدرسة، ويمسكها من شعرها، ويفرغ فيها حشو مسدسه؛ ثم يمتطي دراجته، ويعود بكل أمان، إلى مخبئه في شقة في حي عامر بسكانه، دون أن يعلم مكانه المئاتُ من الجنود وأعوان الدرك والمخبرين وعناصر أجهزة الأمن المختلفة المعبأة للبحث عنه.

3ـ في يوم الثلاثاء 20 مارس يقع ما يسميه أهل الفن التمثيلي “الانقلاب المسرحي”. فقد مات من مات من جنود المظلات، دون أن يُحدث ذلك هزة ملحوظة في المجتمع الفرنسي. وفي نهاية المطاف لم يمت غيرُ ثلاثة مسلمين من بلاد المغرب العربي، ورابع من سـود المارتينيك الواقعة في اصطلاحات الدولة الفرنسية ضمن “أقاليم ما وراء البحر”.. وكأن تلك اللامبالاة نفسها التي خيمت على المشهد جزء أساسي من تقنيات الإخراج المعتمدة. ذلك أن الذي كان يبحث عنه المخرج الماهر لهذه الوقائع هو بالضبط إشاعة جو البرودة في ردود الفعل على الفصل الأول من المجزرة، والابتعـاد عن مناخات التوتر والتأزم.

   وفجأة، يـقع في يوم 19 مارس الزلزال الأكبر، وتحدث الداهية الدهياء، إنها مجزرة ثانويةأوزارْ هاتـوراه” (ATORAH OZAR H) (يعني “كنز التوراة”، وهي شبكة من المدارس اليهودية ـ الإسرائيلية، تضم مئات المدارس في كل أنحاء العالم..) في هذه المرة يموت فيها رجل دين يهودي، يعمل أستاذا في المؤسسة، وثلاثة من الأطفال، أحدهم ابن الأستاذ القتيل. هنا تجتمع خيوط المأساة، وتنفجر المواقف، وتتسارع الأحداث، فيُفتح ستار الرُّكح عن ممثل مفجوع، يصيح ويركل كل بقعة من خشبة المسرح، وتنهمر الدموع أنهارا من عينيه، وتكتشف أجهزة الأمن مخبأ المجرم، وهو مسكنه العادي، ويحاصر فيه، وتتلطف الشرطة فتفسح له المجال لينفذ وعده بالاستسلام، وحين يخرج ليستسلم تقول إنه عبر عن رغبته في الاستشهاد، فيموت مقتولا.. ثم تتجمع وتتراكم صيغ التعبير عن المأساة، فترفع درجة حالة الطوارئ إلى أقصاها، (اللون القرمزي)، ويعلن الحداد في منطقة تولوز فتنكـّس الأعلام، وتخشى الأحزاب، في عز الحملة الانتخابية، من أن يسجل خصمُها انتصارا ساحقا عليها، وقد بدا أن الحوادث كلها تخدمه دون غيره، فلم تجدْ بدا من مجاراته، مكرهة.. فتعلق الحملة الانتخابية مثله، وتسرع إلى الوقوف عند مكان الحادث، وتتبارى في التعبير عن ألمها، وتتزاحم بالمناكب لتشييع جثامين القتلى عند نقلهم إلى إسرائيل.. وفي الغد تخرج بيانات سبر الآراء مبشرة بأن الرئيس المترشح لم يكتف بسد الفجوات التي كانت تفصله عن المرشح السابق، بل إنه أدركه، وهو صار ينافسه في السباق على الميدالية الذهبية..

 

ويسدل الستار عن ألغاز تساؤلات

         مات من مات، وعاش من عاش، وربح في المأساة من ربح، وخسر فيها من خسر. وأسدل الستار، وغادر الجمهور القاعة. وبقيت علامات الاستفهام مكدسة على ضفتي البحر المتوسط، فهل تحل الألغاز ذات يوم؟؟.. وبالمناسبة هل حُـل كما ينبغي لغزُ “طائرة بالادير”؟!

         هذا فتى تعرفه المخابرات الفرنسية جيد المعرفة، وتقول بصفة رسمية إنه موضوع لديها تحت الرقابة المستمرة، منذ أن سافر إلى أفغانستان مرتين متتاليتين. وتقول أنباء صحفية إنه ترشح للالتحلق بفرقة المظليين التي قتل عددا من جنودها، قبل مدة من هذه الحوادث ولم يُقبل فيها، وذكرت صحيفة إيطالية أنه من عملاء المخابرات الفرنسية بعثت به جاسوسا إلى أفغانستان… ثم لماذا يَقتل أطفالا في مدرسة يهودية، وهو يعلم دون شك أن ذلك يؤثر كثيرا في التوازنات الانتخابية، لما لحجم اللوبي اليهودي من الثقل النوعي.. في فرنسا. إنها غابة من الأسئلة والتساؤلات لا يهتدي أحد في متاهاتها الكثيرة

         وعلى ضفتنا هذه من المتوسط، لماذا يُحرم جزائري، كيفما كانت ظروف وفاته، حتى لو كان من أكبر المجرمين، من أن يدفن في تربة بلدِ جنسيته؟ أما يُغلق ملف عدالة البشر عندما يموت الإنسان.. وتنتهي محاكمته في اللحظة التي يصير فيها إلى جلسات المحكمة الربانية؟ هل سمعنا يوما بدولة ذات سيادة حقيقية في العالم رفضت استقبال جثث موتاها ليدفنوا في تراب وطنهم، كيفما كان سجلهم حافلا بالجرائم الانسانية التي ذهبت ضحيتها الآلاف، بل الملايين من الأبرياء؟؟..

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • م .غيور

    نضيف لك أستاذنا المحترم، أن تاريخ 19 مارس الذي ارتكب فيه قتل يهود المدرسة الصهيونية يصادف يوم انتهاء المفاوضات بين الاستعمار وممثلي ج. ت. و، فوضعت الحرب الاستعمارية أوزارها ، وتم الإعلان عن مرحلة جديدة من هذه الحرب علينا ، حرب الأواس والحركى وما جنيناه من اتفاقيات ايفيان ...تداعيات مازلنا نشهد أطوار مسرحياتها إلى حد الآن . أضف إلى ذلك تحويل الحملة الانتخابية الفرنسية نحو الاتجاه الذي يعرفونه ، أما نحن الغلابة ، فسنبقى نتفرج ونتابع مجريات الأحداث دون أن نعير أي اهتمام لانعكاساتها كل ذلك علينا .

  • سليم

    من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
    إنما أصابنا هذا الهوان و الضعف بسبب ابتعادنا عن تعاليم ديننا ، و بسبب هؤلاء الحكام الذين لا عقل لهم ولا دين ولا علم .

  • diab

    تحيه لك يا دكتور اردة ان ادكرك وبكل احتلرام لك وتواضع انك نسيت
    رابعا اد بدات بدبيحة المسلم هل هى انسانيه ام همجيه حتى تكتمل الصور ويعلم المراد من كل هدا

  • الراصد

    استاذي الفاضل تحليل جد موضوعي
    الا ان سؤال يطرح هل اختيار هذا الشاب (الاسم محمد البلد الاصلي لابويه الجزائر)جاء عبثا
    الجزائر كعادتها لم تتنكر لابنها انما هو فرنسي
    الجزائراصابت في رفض الدفن على اراضيها (هم قتلوا ويريدون مسح الموس)
    استاذي مالذي كان سيحدث لو احضر للجزائر واستقبل هذا المغرر استقبال الابطال(مع التضخيم الاعلامي الذي لانتحكم فييسيره) لجاليتنا في الخارج
    لماذتم طرد الامام الجزائري مباشرة بعد رفض الدفن لمحمد وضمن تداعيات العمليات الاجرامية تلك
    استاذي معذرة اضنك جانبت الصواب