مركب يفيض بركة وعبادة وعلما

إلى هضبة العباد حيث ضريح الولي الصالح ” سيدي بومدين “سرنا وقبل وصولنا قرأنا أن أبي مدين شعيب الإشبيلي من مواليد إشبيليا بالأندلس سنة 509 هجرية الموافق ل 1126 م عاش ردحا من الزمن ببجاية وقد توفي بقرية العباد التي بناها المرينيون يوم 13 نوفمبر 1197م وأمر الملك محمد ناصر المرينيين في سنة 1200م ببناء ضريحه الذي يعد بحسب الخبراء من أجمل الأضرحة عبر الوطن.وبعد صعود متواصل وصلنا المكان مع نسمات الصباح الجميل لنطرق باب “مركب سيدي بومدين “.

لطالما ذكرتنا مدينة تلمسان بكل ما هو أصيل، قديم، ضارب في التاريخ، متوارث، لها من الكاريزما إن صح التعبير لتعطيك انطباعا أنك تتجول في أحد صفحات كتاب تاريخ عتيق، ولكي نتعمق في التاريخ سرنا بخطى عازمة إلى مركب سيدي بومدين في هضبة العباد الذي طارت شهرته وذاع صيته في أرجاء الوطن العربي .

 يستقبلك الضريح وهو جزء من أربعة هياكل يضمها مجمع سيدي بومدين وهي: المسجد والمدرسة والضريح وقصر السلطان. خطوات وتجدك قبالة باب ضريح سيدي بومدين الذي يتموقع مقابل باب المسجد. الباب يؤدي إلى مدرج يمكّنك من النزول إلى قبر أبي مدين، وهذا الباب صغير ذو قوس منكسر يحيط به إطار من الفسيفساء أو الزليج ذي الألوان المختلفة، وتعلوه شرعة تستند على عمودين صغيرين من الخشب لهما تاجان بديعا الشكل  وفي أسفل الدرج توجد مقبرة على اليمين تضم رفات علماء من أهل تلمسان، ثم يتم الدخول إلى صحن مربع الشكل تحيط به أروقة على شكل حدوة فرس في غاية الإتقان، فوقه قبة محمولة على قناطر تحملها أربعة أعمدة من المرمر ذات تاجين، قيل أنها جلبت من دار الفتح بالمنصورة بعد تخريبها من طرف سكان تلمسان. أما أرضية الصحن فهي مغشاة بالفسيفساء الملونة تتخللها شواهد من الرخام لقبور بعض أعلام المدينة، وعلى يسار مدخل الصحن توجد بئر عميقة ذات ماء عذب، ويوجد ضريح أبو مدين على يمين مدخل الصحن وفي داخل الضريح غرفة مربعة يعلوها سقف ملوّن جميل هرمي الشكل في الخارج، ويدخل الضوء إلى هذه الغرفة من أربعة نوافذ صغيرة تضيء قبري الشيخين: “أبي مدين شعيب” على اليمين، والفقيه “ابن عبد السلام التونسي” المتوفى بالعباد عام 589هـ على اليسار وهو مدفون هنا 17 عاما قبل سيدي بومدين وأصوله من تونس.خاصة وأن تلمسان كانت مقصد العلماء في ذلك الوقت منهم من عاش فيها ومنهم من مات فيها ومنهم من درس فيها وعاد لموطنه.أما سيدي بومدين توفي ب”عين تقبالت” وهو في الطريق إلى ملك المغرب الذي استدعاه كي يتعرف عليه.ولأن المكان ذاع صيته منذ زمان أصبح وجهة للتبرك من المسلمين وغيرهم فالزائر لولاية تلمسان يستفتح اقامته بزيارة تبرك لضريح “سيدي بومدين” خاصة وأن المكان أصبح قطبا سياحيا بامتياز بعد إختيار تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية. المكان لشدة نظافته رغم عدد الزوار الكبير الذي يستقبله يوميا دفعنا لأن نبحث عن الجهة التي تسهر عليه وهي عائلة “المعصوم” التي تتولى هذه المهمة بالوراثة  أبا عن جد منذ 150 سنة. وهم ينحدرون من أصل “ابن مرزوق” وهم علماء كبار جاءوا من الأندلس في عهد سيدي بومدين.

أما عن كيف جاءت فكرة بناء مركب “سيدي بومدين” فتقول السيدة “قادوس” دليل بالمركب أنه عندما جاء “أبي حسن علي المريني” ملك فاس في سنة 1337 ليستعمر تلمسان بعد حصار دام عامين. أول ما قام به هو أنه فكر في التقرب من الشعب التلمساني فبني هذا المركب بعد أن كان العباد يحتضن الضريح فقط . ثم أشرف على بناء المسجد الذي يعتبر تحفة معمارية ثم بنى المدرسة القرآنية ثم اتم ببناء قصره وسكنه ليجاور سيدي بومدين.

الضريح فتح شهيتنا أكثر والفضول زاد وكانت الوجهة هذه المرة “قصر السلطان”الذي ليس ببعيد عن الضريح خطوات للأمام وتستقبلك حديقة غناء.ويحكى عن أبي حسن علي المريني  بأنه عالم ومتدين وكاليغراف ولم يعش في تلمسان التي استعمرها خاصة وأنها تعرضت ل 07 حصارات في نهاية القرن 13 .ولا في المنصورة التي رممّها بعد أن بناها جده “ابو يعقوب المنصور” في سنة  1295 .واختار أن يكون إلى جوار سيدي بومدين وبنى هذا القصر التي يتكون من 10 غرف بالإضافة الى 03 ردحات –مساحات- وحديقة رائعة وعاش هنا حتى أخرجه ابنه “أبي عنان الفارس” من تلمسان ولم يقتله كما كان متعارف- أن الأبناء يقتلون آبائهم- بل أخرجه من الحكم وأكمل بقية حياته في المغرب إلى أن توفي.القصر على ارتفاع 50 متر وموقعه الإستراتيجي مكّنه من حماية تلمسان وحراستها لذلك يصطلح عليه ايضا ب”سيدي بومدين حارس تلمسان”.أما الزخرفة الخاصة بالقصر لم يبق منها الكثير ولكنها واضحة من خلال الزليج .والحمّام والميضئة التي كان يتوضأ فيها.خرجنا من القصر بعد أن شربنا شربة هاء باردة، لنتجه صوب المسجد الذي تدخله بعد درج صعودا لترتطم باب وأي باب؟ باب كبير ضخم شاهق وأنيق، هناك روايتين الأولى تقول أنه جاء من الأندلس وهناك من يقول أن أهل تلمسان هم من صنعوه وقدموه تحفة وأصبح بذلك من أجمل أبواب المساجد في المغرب العربي . لما توفي سيدي بومدين لم يكن المسجد قد بني هو توفي 1197 والمسجد بني في القرن 14.في القرن 12 إلى القرن 14 كانت تلمسان تحوي أكثر من 60 مسجدا منهم الذين بناهم الملوك ومنهم من بناهم عامة الناس.”أبي حسن علي المريني” استخدم التصميم الهندسي  الخاص بالمسجد الذي كان يتواجد في قرطبة بمدينة الزهراء في القرن 10 .وابنه أعاد نفس الشيء فيما بعد.وتلمح في زوايا المسجد ترميم الخزف الأصلي لقرطبة. كما يظهر الترميم الخاص بالعثمانيين .وله بابين باب مفتوح للشعب وباب يفتح على القصر.خرجنا من المسجد على وقع أذان صلاة الظهر لنتجه للمدرسة القرآنية لسيدي بومدين أو “الخلدونية”كما يسميها البعض. وقد اقترن اسمها ب”إبن خلدون” لأنه قصدها ليرتاح وكان يدرس بها ولكن تطوعيا فقط .مدرسة سيدي بومدين هي المدرسة الوحيدة التي بقيت بعد المدرسة “السنوسية”، “اليعقوبية”، “أولاد الإمام التشفينية”، وهي مدارس صادرتها فرنسا والوحيدة التي صمدت هي “مدرسة سيدي بومدين” والوحيدة التي بقت وكانت تدرّس الطلبة من المشرق العربي، من افريقيا، من حوض المتوسط.

و”أبي حسن علي المريني” هو الذي بناها وكان يتكلف بكل مصاريفها وبنى فيها مأوى للطلبة الوافدين أيضا .المدرسة تحوي أيضا ضريحا الشيخين اللذان كانا يدرّسان بها وكذا بعض النسخ لمخطوطات للقرآن الكريم.وعندما احتضنت تلمسان عاصمة للثقافة الاسلامية اغلقت نهائيا وأصبحت متحفا ومقصدا للزوار .

شكر خاص للسيدة “قادوس” وكل من كان يعمل معها  بمركب “سيدي بومدين” خاصة السيدة فطيمة التي كانت مصورتي في هذه الجولة وودنا أن نرفع لهم أجمل التحايا من خلال هذا المنبر الإعلامي.