-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“مشروع صناعة الوعي”

التهامي مجوري
  • 3889
  • 0
“مشروع صناعة الوعي”

في مقالي “هكذا كانت حجتي”، ذكرت أن من بين ما تفضل الله به علي في تلك الحجة، أنني وضعت خطة لمشروع إصلاح ثقافي، سميته بعد ذلك “صناعة الوعي”، وقد لفت انتباه هذه العبارات أحد القراء فعلق قائلا “حدثنا عن مشروعك”، واستجابة لهذا القارئ الكريم بهذه المناسبة التي خصصتها للقراء وتعميما للفائدة، أحدثكم عن هذا المشروع وأعرض عليكم تفاصيله.

ولدت بذور هذا المشروع منذ أكثر من ثلاثين، حيث كانت القوى السياسية الوطنية في العالم العربي والإسلامي، فاقدة للثقة –ولا زالت-، في سلطاتها الوطنية، فربطت نفسها بتنظيمات إقليمية ودولية، معتقدة أنها المخرج لأزمات بلادها؛ لأن الدولة الوطنية -عموما- بعد الحرب العالمية الثانية فقدت بريعها، بسبب فقدان بعض مقومات الدولة القوية، إذ لم يعد للقوة معنى إذا لم تكن في إطار جهوي وإقليمي، كالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، والسوق الأوروبية المشتركة التي تحولت فيما بعد إلى الاتحاد الأوروبي، ومجلس التعاون الخليجي…، فانتسبت تلك القوى الوطنية المعارضة إلى الأممية الاشتراكية، والقومية العربية، والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وغيرها من التيارات المنظمة وغير المنظمة..، وهي تيارات لها تصوراها للإنسان والحياة والنظم  التي تحكمها، فكان تساؤلي كالتالي:

كيف يكون المناضل وفيا لوطنه، وفي نفس الوقت مواليا لهذا التنظيم أو ذاك؟ لا سيما عندما يتعارضان في موقف أو مواقف ما..، فقد كان هذا التساؤل على بساطته محوري بالنسبة إلي في ذلك الوقت الذين اندمجت فيه في واقع الاهتمام بالشأن العام، مثل غيري من أبناء جيلي المتطلع إلى دولة قوية ومجتمع صالح وضمانات اجتماعية تقيه الاضطرابات والتشرذم.

لقد كان هذا التساؤل مدخلا مهما لي، اكتشفت به بعد ذلك دوائر انتماء الإنسان، كما عبر عنها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله بقوله إن “الإنسان من طفولته  يحب بيته وأهل بيته لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم وما البيت إلا الوطن الصغير، فإذا تقدم شيئا في سنه اتسع أفق حبه وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه، فإذا دخل ميدان الحياة وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره  وما ينظر إليهم من مستقبله ووجد فيه صورته بلسانه ووجدانه وأخلاقه ونوازعه ومنازعه، شعر نحوهم من الحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته ولما فيه كما تقدم –من غريزة حب الذات وطلب البقاء-  وهؤلاء هم أهل وطنه الكبير، ومحبته لهم في العرف العام هي الوطنية. فإذا غذي بالعلم الصحيح، شعر بالحب لكل من يجد فيهم صورته الإنسانية وكانت الأرض كلها وطن له وهذا هو وطنه الأكبر. هذا ترتيب طبيعي لا طفرة فيه ولا معدل عنه” [ابن باديس حياته وآثاره 3/343-344، ط د دار المتعلم سنة 2015]. وهذه الدوائر ليست مجرد حد فطري طبيعي كما ذكره ابن باديس وحسب، وإنما هي مسألة وجودية، تنبني عليها الكثير من الكليات والجزئيات في حياة الإنسان فردا ومجتمعا. 

كان مجرد تساؤل نمى شيئا فشيئا إلى أن اكتملت معالمه وما ينظر إليه من مستقبله، ووضعت خطته في أيام الحج بمنى سنة 2012، وهو الآن معد كدورة تدريبية لمن يطلبها م المهتمين بالشأن العام، سياسيين ونقابيين ومناضلين في أحزاب وجمعيات ثقافية وخيرية ودعوية…إلخ.

فالإنسان إذن ينتمي إلى أسرة تحكمها قواعد تراحمية على تعبير عبد الوهاب المسيري رحمه الله، ثم تليها دائرة المجتمع والدولة، وتحكمها قواعد تعاقدية، ثم دائرة الأمة وتحكمها قواعد عقدية دينية، وأخيرا الدائرة الإنسانية وتحكمها قواعد حضارية عامة، والمفترض في هذه الدوائر بهذا الترتيب والتصنيف أنها متناغمة، والمنتمي إليها يشعر بالحماية والاطمئنان والتفاعل الإيجابي، فالأسرة هي المحضن الأول الذي يتلقى فيه الفرد مبدأ حياة الجماعة ليمارسها في الدوائر الباقية، بما تمليه من قيم وحقوق وواجبات وتضحيات وتفاني، ليصبح عنصرا فعالا في إطار المجتمع والأمة والمجتمع الإنساني عموما، ودائرة الأسرة لا يتلقى فيها الفرد كل شيء، وإنما يتلقى فيها بذور القيم الإنسانية التي تتطلبها المراحل التالية، فالمجتمع يحتاج من أفراده الالتزام بالعقود المبرمة وفق الأعراف والقوانين، والأمة تحتاج إلى أفراد موالين للدين مصدرا للقيم، والإنسانية جامعها المشترك الإنساني العام، وعندما تسير الإنسانية وفق هذه الدوائر وما تمليه من قوانين للسير، فإنها تعيش في تلاؤم ووئام وتواد وتراحم.

ولكن التجربة التاريخية كشفت لنا أن العالم عاش في الماضي ولا يزال يعيش اهتزازات في العلاقة بين هذه الدوائر نفسها؛ بل أشعلت حروب  ونزاعات وصراعات، تعصبا للإنتماء لدائرة من هذه الدوائر.. فكثيرا ما كانت الحروب بسبب الانتماء القبلي، وبسبب الوطنية المفرطة، وبسبب الصراعات الاقتصادية والثقافية والدينية، بين الديانات والثقافات والشعوب، ولفهم هذه الإشكالية، لا بد من العودة إلى فهم هذا الإنسان المنتمي إلى تلك الدوائر، وبناء على ذلك درست هذا الإنسان الذي هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة: الإنسان كما خلقه الله، والإنسان كما يراه الناس، الإنسان كما يرى هو نفسه، كما يقول الكاتب الأمريكي ”وندل هولمز [عباس محمود العقاد، من كتابه: أنا]، ودرست مراحل نموه المعرفي والنفسي والاجتماعي، ومراحله العمرية، فهو طفل وشاب وكهل وشيخ، ودرست ما بين هذه المراحل من فوارق وتباينات، وكيف مارس هذا الإنسان الفكر في عصوره المختلفة؟ وكيف تلقى الشرائع السماوية ومارس التدين؟ ثم ما هذا الذي يلجؤه إلى التوق إلى التغيير والإصلاح؟ وكيف يمارس التغيير والإصلاح؟ وهل كل فئات المجتمع مطالبة بالتغيير والإصلاح؟ وما هي الشروط والضوابط التي ينبغي توفرها في من يتبنى من الإصلاح والتغيير؟

وخلال تلك العقود الثلاثة تابعت حركات الإصلاح في العالم الإسلامي كلها، بكل نجاحاتها وإخفاقاتها، وتوصلت إلى أن مشكلتنا في العالم الإسلامي هي مشكلة وعي.. فما تملكه الأمة من شروط للإقلاع والنهضة حرمت منه الكثير من المجتمعات والأمم، من موارد مادية،وطاقة شبابية، قدر كافي من العلم المطلوب، مع معرفة تكنولوجية معتبرة.. ومع ذلك لم يتم التغيير ولا الإصلاح، رغم الأثمان الباهضة التي دفعتها، أموالا وأرواحا في سبيل ذلك؛ بل لا تزال الأمة تتطلع إلى الإنعتاق الفعلي من ربقة الاستعمار والتخلف.

والوعي هو إدراك للواقع كما هو والتحرك وفقه، فهو ليس مجرد فكر وعلم، وليس كما من الأعمال،  وليس تضحية وإخلاصا، وإنما هو مستوى من مستويات المعرفة كما يرى رونيه ديكارت، باعتباره وسيطا ينسق بين نشاط العقل ونشاط الجسد، لكون التمثلات الذهنية نفسها موضوعا للتأمل العقلي، بحيث ينتقل من التفكير في الأشياء، إلى التفكير في التفكير نفسه، وذلك بعد جديد من أبعاد الوجود الإنساني.

وبتتبعي لجزئيات الموضوع وكلياته، لاحظت أن الناس توصلوا إلى أن مشكلاتنا فكرية عند البعض.. وأخلاقية عند آخرين.. وسببها الجهل عند قوم، وأصلها عدم التضحية عند غيرهم.. بينما الحقيقة تقديري أن المشكلة ليست كذلك، وإنما هي في الوعي؛ لأن أي قدر من الفكر والعلم والأخلاق والتضحية مهما كان ضئيلا، يكفي لإحداث نقلة نوعية في الأمة، عندما تكون الأمة على قدر عال من الوعي، وربما هذا هو معنى قول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي “بناء جيل على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل”، في معرض كلامه عن خطة الإصلاح التي وضعها مع الشيخ عبد الحميد بن باديس.

إن الأمة تملك عددا هائلا من العلماء وفي كل التخصصات، وتضحياتها لا مثيل لها في تاريخ الشعوب والأمم، ومستوى تدينها تحسد عليه، ومع ذلك هي في الحضيض لماذا؟ لأنها لا تملك قدرا كافيا من الوعي يمكنها أن تعيش عصرها زمانا ومكانا وحالا…، ولمعرفة الموضوع بوضوح وأكثر دقة.. حاولوا رصد جماعة تتناقش في شأن من الشؤون العامة، موقف انتخابات أو موقف من أزمة ما، أو الرأي في مسؤول معين.. ومن بين هذه الجماعة مثلا الأستاذ الجامعي والباحث والإعلامي والطالب والتاجر والعامي والأمي…، فإنكم ستلاحظون أن الجميع يتفاعلون وينفعلون بنفس المستوى وبنفس المستوى والقدر من التحليل والاستنتاج، بل وبنفس القدر من التفاؤل والتشاؤم وبنفس التعليلات، وتختفي كل الفوارق الطبيعية بينهم العلمية والإجتماعية، رغم وجودها نظريا؛ لأن المعادلة التي تحكم الجميع هي انعدام الوعي او ضعفه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!