الجزائر
"الشروق" تقضي 40 ساعة في رحلة بين الجزائر ومارسيليا

مغتربون ينقلون “الخردة” الفرنسية إلى الجزائر!

نوارة باشوش
  • 13472
  • 35
الشروق

من العادات الشائعة وسط المغتربين أن لا يعودوا إلى الجزائر، إلا وهم محملون بمختلف السلع التي انتهت وظيفتها في فرنسا من درجات نارية وألبسة وأجهزة إلكترونية تجاوزها الزمن وأدوات السباكة التي أتى عليها الصدأ لدرجة أن البعض يتحدث عن قيام عدد من المغتربين بتنظيف المدن الفرنسية من “الخردة” وإدخالها إلى الجزائر، في المقابل ماذا يأخذ المغتربون من الجزائر عند عودتهم إلى فرنسا هذا ما وقفنا عليه خلال رحلتنا على متن باخرة طارق بن زياد عند ذهابنا إيابا من الجزائر نحو مارسيليا.

تجارة “الخردة” والبزنسة في التمور والطعام والشمة الجزائرية، مشهد جديد من مشاهد الفوضى يقودها الباحثون عن المال بأي وسيلة، منظمين أنفسهم في شبكات منظمة، فمنها من لم تتعد رقعتها حدود الوطن، وأخرى عبرت الحدود إلى ما وراء البحار، لكن تفاصيلها ومن يقف وراءها والمستفيدين منها ما زالت غامضة، إذ يشبهها العارفون بهذا العالم الخفي بـ”التجارات الأخرى غير الشرعية، كتهريب البشر وبيع المخدرات”.

حي شعبي متنقل في أروقة وأسطح باخرة بن زياد

على متن الباخرة الأسطورة طارق بن زياد ولأزيد من 40 ساعة، عاشت “الشروق” تفاصيل مثيرة لرحلة بين الجزائر ومرسيليا ذهابا وإيابا، لتقف على مشاهد لمغتربين و”بزناسية”، حوّلوا أعرق سفينة إلى سوق شعبي، على شاكلة بومعطي، باش جراح والقليعة المشهورة بتجارة “الخردة” والشيفون.

رحلتنا بدأت من ميناء الجزائر على الساعة الثانية عشرة والنصف من يوم 13 أكتوبر على متن باخرة ”طارق بن زياد” نحو مرسيليا وعلى متنها أزيد من 800 مسافر و480 سيارة، وبعد حصولنا على رخصة للقيام بربورتاج رفقة الزميلة فضيلة مختاري من تلفزيون “الشروق” من طرف الرئيس المدير العام للمؤسسة الوطنية للنقل البحري للمسافرين، أحسن قرايرية الذي قال لنا بالحرف الواحد “قبل بداية رحلتكم أقول لكم إن التعامل مع المسافرين في البحر يتطلب التحلي بدبلوماسية واحترافية عالية، والأكثر من ذلك برودة أعصاب لأنها مفتاح كل المشاكل”.
بعد ساعتين من ركوب جميع المسافرين تم الأمر بإغلاق البوابات، والتأهب للانطلاق نحو مدينة مرسيليا، حركة كبيرة قرب مكتب الاستقبال وضغط كبير على الأعوان المكلفين بتوجيه المسافرين نحو الغرف، الساعة تشير إلى الرابعة و20 دقيقة، انطلقت الباخرة، لتبدأ معها فوضى من نوع آخر تتطلب من محافظ الباخرة عبد الله مهيريس والمعروف بـ”عمي عبد الله” وقبطانها وكل الطاقم التعامل بدبلوماسية كبيرة مع المسافرين بمزاج مختلف، والأكثر من ذلك برودة الأعصاب، لأنه من المستحيل أن تسير جميع “العقليات” إن صح التعبير، فعندما سألنا عمي عبد الله وجميع المسؤولين من أبسط عامل إلى قبطان الباخرة، أجمعوا أن “الصبر، الخبرة والصرامة”، مفتاح تجنب الفوضى، المهم إرضاء الزبون وإقناعه والحفاظ على صورة الشركة والباخرة”.

وخارج الباخرة فضل العديد من المسافرين التوجه نحو سطح الباخرة لتوديع الجزائر وأخذ صور تذكارية للعاصمة على أمل العودة في العام المقبل، بدأت العاصمة تبتعد شيئا فشيئا والباخرة تزيد من سرعتها في عرض البحر المتوسط.

البصل و”الكرموس” مقابل الخردة والشيفون

في جولة قامت بها “الشروق” على متن الباخرة، وقفت على تصرفات خارجة عن القوانين المعمول بها في كل بواخر العالم، حقيقة هي معاناة كبيرة يتحملها طاقم الباخرة التابع للمؤسسة الوطنية للنقل البحري للمسافرين بدءا من ربان الباخرة والمحافظ إلى عامل النظافة، إذ مع حلول الظلام يتبين لك في كل زاوية من زوايا الباخرة مسافرون يفترشون كل ما وجدوه من مخدات الأرائك والستائر بعد نزعها من مكانها للنوم، وكأنك في ساحة “بور سعيد” المعروفة باحتضانها للمتشردين ليلا، بل أكثر من ذلك فهناك من يقوم بقضاء “حاجاته” في زوايا أو سطح الباخرة رغم توفر دورات المياه؟ إلى جانب رمي بقايا السجائر والقارورات الفارغة على أسطح السفينة، رغم اللافتات المنتشرة والمكتوب عليها بالبنط العريض “ممنوع التدخين”.

المعروف أن معظم المتوجهين إلى فرنسا عبر الباخرة خلال هذه الفترة هم “بزناسية”، فخلال دردشتنا معهم دهشنا لحجم السلع التي يتم نقلها بالأطنان إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، فعندما سألنا أحد “البزناسية” من ولاية بسكرة، قال إنه حمل في شاحنته الصغيرة أزيد من 10 قناطير من التمر “دقلة النور”، و8 قناطير من الكسكس، ومشروبات “حمود بوعلام” الغازية، فيما حمل آخر “كميات كبيرة من الشمة، البصل”، “الثوم” و”الهندي” و”البخسسيس”؟ أي أن كل شيء أصبح ينقل أو يهرب من الجزائر نحو المدن الفرنسية.

أسواق “الدلالة” وكارثة الجزائريين في مرسيليا

قبل الوصول بساعة تم إشعار المسافرين بالموعد، عندها بدؤوا في الاصطفاف وحمل الأمتعة نحو بوابة الخروج، صعدنا مجددا إلى غرفة القيادة، رفقة محافظ الباخرة عبد المجيد نوي المعروف بالانضباط والصرامة، الكل كان مستعدا لإرساء الباخرة بأمان•• تفاصيل صغيرة جدا والرسو في المكان المحدد أمر يتم بدقة شديدة تحت الأعين الحارسة للقبطان وقائد باخرة طارق بن زياد، رضا قنون ومساعده يوسف يحياتن إلى جانب كبير المهندسين رشيد نصاح وعدد من ضباط الباخرة على غرار غيلاس، سيليا، وردة ومقران.

مباشرة بعد ذلك كانت لنا فرصة تقفي آثار عدد من المغتربين الذين يتأهبون للعودة إلى الجزائر، وفعلا وبعد أن تمكنا من جمع المعلومات، تنقلنا إلى السوق الشعبي المعروف بمرسيليا “الدلالة” ” marché au puce” لبيع مختلف أنواع الخردة، من آلات كهرومنزلية وميكانيكية، ملابس مستعملة، أجهزة إلكترونية، أوان وأثاث منزلية، لوازم ولواحق السيارات. إلى جانب الدرجات النارية”، حيث يحج الآلاف من المغتربين إلى هذا السوق.

وخلال جولتنا عبر ممرات وأروقة هذا السوق رصدنا عمليات جمع وشراء الخردة، حيث إننا لا نسمع إلا عبارات “أشحال تجيب هذي زعما فالبلاد”، مع أن هذه السلعة ليست في حالة جيدة، إلا أن أحد المغتربين المدعو سمير 34 سنة قال “هذا المكان يعج ببزناسية الخردة والشيفون” وهمهم الوحيد هو هامش الربح بعد تحويلها وبيعها في الجزائر، ولهم زبائنهم قائلا “لا تقلقي من هذا فهدفهم هو هامش الربح”.

إلى ذلك سجلنا أيضا ظاهرة غريبة قام بها عدد من المغتربين في الشوارع القريبة من السوق الشعبي المعروف بـ”Marché Soleil” إذ قاموا بجمع أي شيء رمي في الأزقة والأحياء وفي أماكن مخصصة لهذا الغرض، من الشيفون والأثاث القديم والأجهزة الكهرومنزلية، لإعادة بيعها في الجزائر بأزيد من عشرات المرات من سعرها بفرنسا.

طريق العودة.. “البزناسية والسماسرة” وروايات مثيرة

بعد مكوثنا في مرسيليا يومين، عدنا إلى معايشة مشاهد أخرى على طول الطريق البحري رقم “021 ـ 009″ الذي سطره قائد الباخرة رضا قنون، تجاه الجزائر.. فانطلاقا من ميناء مرسيليا، سجلنا طابور السيارات المملوءة عن آخرها بالسلع والخردة والشيفون والأثاث القديمة، إلى جانب الدرجات النارية، من المدخل الرئيسي للميناء مرورا بنقاط التفتيش ووصولا إلى غاية بوابة الباخرة، وهنا أكد لنا ممثل الشركة الوطنية للنقل البحري للمسافرين بمرسيليا كمال يسعد في رده عن سؤلنا المتعلق بكميات السلع التي تجاوزت 3 أمتار من فوق سطح المركبات، أن الجمارك الفرنسية تسمح لهم بنقل كل ما يمكن نقله، بل وتسهل لهم المهمة، عموما لا يوجد ما يمنعهم من ملء السيارات بالخردة وتحويلها نحو الجزائر”.

ولعل ما يلفت الانتباه دخول السيارات إلى الباخرة، تلك الدرجات الهوائية التي يحملها أغلب المسافرين، فأحيانا تجد مسافرا واحدا يحمل معه 8 دراجات معظمها قديمة، لكن إعادة بيعها هنا في الجزائر يدر أرباحا طائلة على أصحابها، فيما أكدت مصادرنا في عين المكان أن “السماسرة” يحولون ما يزيد عن 50 ألف دراجة شهريا ومئات السيارات الجديدة ليربحوا من ورائها الملايين في الجزائر، فسعر الدراجة في منطقة “سان لازار” المعروفة ببيع الدرجات النارية بمرسيليا تتراوح بين 60 و80 أورو، أي ما يعادل مليون ومليون نصف، ليتم إعادة بيعها في الجزائر بأسعار تصل إلى 7 ملايين سنتيم، أي بتحقيق هامش ربح يتراوح بين 4 و5 ملايين سنتيم عن كل دراجة وهذا حسب نوع وحالة الدراجة.

النقطة السوداء في الباخرة ومعاناة البحارة

عشنا لحظات عصيبة رفقة طاقم الباخرة خلال تزاحم سيارات ومركبات المغتربين الجزائريين لدخول مرآب باخرة طارق بن زياد، حيث سادت الفوضى بكل تفاصيلها، ما تطلب تدخل قائد الباخرة رضا قنون الذي تحول من قبطان السفينة إلى منظم للحركة، إلى جانب مساعده يوسف يحياتن ورئيس التقنيين المكلف بالمستودع، إضافة إلى عدد من الضباط والعاملين بالباخرة الذين بذلوا جهدا كبيرا في ركن المركبات، فهناك حسب محافظ الباخرة عبد المجيد نوي، من يصر على وضع سيارته في الواجهة الأمامية للباخرة، حتى يخرج بسرعة لأنه في إجازة، وآخر عنده مريض في المستشفى فيما يتذرع العديد منهم بالأمراض المتعددة التي لا تسمح لهم بالمكوث طويلا في طوابير قبل التفتيش الشرطي والجمركي”.

مقالات ذات صلة