الجزائر
الباحثة في اللسانيات الأمازيغية خديجة ساعد في حوار لـ"الشروق":

مناسبة “ينار” ملك لجميع الجزائريين.. من حقهم احتضان ثقافتهم وهويتهم

صالح سعودي
  • 1986
  • 15
ح.م

تتحدث الكاتبة والباحثة في اللسانيات الأمازيغية خديجة ساعد في هذا الحوار الذي خصت به “الشروق” عن رأيها في التطوّرات الحاصلة حول واقع ومستقبل الأمازيغية في الجزائر، موازاة مع ترسيمها منذ عامين، مؤكدة بأن مناسبة يناير تعد ملكا لجميع الجزائريين الذين من حقهم حسب قولها احتضان ثقافتهم وتراثهم وهويتهم، وفي الوقت الذي أكدت بأن ترسيم الأمازيغية كان مطلبا شعبيا لرد الاعتبار للغة وتاريخ الأجداد، إلا أن هذه الخطوة حسب خديجة ساعد لا تزال في بدايتها، خصوصا وأن الأمازيغية ظلت شفوية لقرون عدة، ما انعكس سلبا على نتاجها الفكري والمعرفي.

بداية، ما هي آخر مستجداتك في مجال التأليف؟

أنا في حاجة إلى ما يشبه استراحة محارب، وهذا بعد صدور كتابي في الطوبونيميا الأمازيغية بالأوراس، والذي استغرق مني أربع سنوات من البحث والدراسة والتركيز والعمل المكثف، الكتاب يقع في 300 صفحة ويتناول أكثر من 365 تسمية أماكينية بالدراسة والبحث الطوبونيمي. هذا العمل هو الجزء الأول من الكتاب، وهو يخص منطقة الأوراس بكل ولاياتها، كما أتيحت لي فرصة المشاركة مع عدد من الدكاترة والباحثين بجامعة سطيف في كتاب جماعي يعنى بتاريخ وثقافة المدينة، وسيصدر عن الشبكة المغاربية للدراسات الفلسفية والإنسانية، وقد يكون قريبا بين أيدي القراء، وفي جعبتي عديد الأعمال التي أتمنى أن أنجزها مستقبلا.

كيف تقيّمين إصداراتك لحد الآن وفق الجوانب التي تطرقت إليها؟

التقييم يعود للقراء والمختصين في اللغة والثقافة الأمازيغية، باعتبار أن كلا الإصدارين يتمحوران حول المجال اللساني الأمازيغي، فالقاموس الأمازيغي العربي الخاص بالمتغير الشاوي والذي صدر سنة 2013 عن دار النشر “ثيرا” ببجاية قد نفدت الطبعة الأولى منه، ولا يزال مطلوبا في مختلف المناطق بالجزائر وخارجها، ورغم ذلك فإن إصدار نسخة جديدة ومنقحة بات أمرا ضروريا، بالنظر إلى الشوط الذي قطعه تعليم اللغة الأمازيغية بكل مراحلها، والوتيرة التي يسير بها تطوير هذه اللغة في كل المجالات، وهناك الجديد الذي يجب إضافته دوما. فيما يخص كتاب الطوبونيميا فقد لاقى صدى واسعا، خاصة من طرف أمازيغ دول الجوار، أجد أنه من السابق لأوانه تقييم هذا العمل بالذات، باعتبار الطوبونيميا من العلوم الحديثة التي ظهرت منذ أقل من قرن، ولم تعن بعد باهتمام كبير من قبل الباحثين، كما لم تتوفر بعد المنهجية المثالية للبحث في هذا المجال، ولذلك تصعب المقارنة حاليا بين العدد القليل جدا من الكتب المتوفرة في الساحة الوطنية وفي شمال إفريقيا عموما. لحد الآن هناك طلب متزايد على هذا العمل من طرف الباحثين والطلبة الجامعيين على وجه الخصوص، كما بدأ استعماله كدليل سياحي وثقافي في عدد من المواقع الأثرية كونه غني بالمعلومات التاريخية والجغرافية واللغوية أيضا. وهذا لا يشير فقط إلى نجاح الكتاب وإنما يشير أيضا إلى الفراغ الكبير في مجال البحث الطوبونيمي، خاصة في منطقة عريقة مثل الأوراس.

هل ترين أنك منحت الإضافة اللازمة للمكتبة الأمازيغية؟

التجارب الأولى غالبا ما تشبه المغامرة الخطرة، فاللغة الأمازيغية التي ظلت شفوية طيلة قرون تحتاج حاليا إلى وقت أطول وجهد أكبر والتفاف صادق من جميع المختصين والمهتمين بالشأن الأمازيغي. أتذكر حين بدأت سنة 1997 في خط أولى الحروف في قاموس تمازيغت الذي استغرق مني 12 سنة من البحث، كانت الساحة الوطنية شبه خالية من الإنتاج الأمازيغي عدا ما كتبه عدد قليل من الباحثين في منطقة القبائل، ومع ذلك كانت هناك جهود تبذل في الأوراس من طرف عدد أقل من الكتاب والباحثين، بعد مدة كان صدور هذا الكتاب بمثابة نقطة التحوّل التي حركت المياه الراكدة، ما فسح المجال أمام الكثيرين لإخراج إبداعاتهم إلى العلن، كنا أمام محاولة لتغيير الوضع وإثبات الذات وإقناع المجتمع بأن هناك مكان ما للكتاب الأمازيغي في بيوتنا ومكتباتنا وفي قلوبنا أيضا. نفس الشيء ينطبق على كتاب الطوبونيميا، فهو يعد التجربة الأولى في الأوراس، إذ توسع فيه البحث إلى منطقة شاسعة ليشمل عددا معتبرا من الولايات. وسيكتشف القارئ بأن العمل قد كتب بحرية تامة، وتمت فيه تسمية الأشياء بمسمياتها بلا عقدة ولا تبعية، فالكاتب ملزم بتقمص شخصية القارئ أثناء عملية الكتابة، لتجتاز رسالته الزمان والمكان نحو المتلقي أينما كان، وباقي التفاصيل ستكون تحصيل حاصل ليس إلا.

تركيزك منصب على الشق اللغوي، فكيف ترين واقع الأمازيغية في الشق الإبداعي والتوثيقي؟

لقد حظي المجال اللساني باعتناء كبير من قبل الباحثين، لأن اللغة الأمازيغية ظلت شفوية لقرون عدة، وقد تم تصنيف تمازيغت من قبل منظمة اليونيسكو في خانة اللغات المهددة بالانقراض، وهي تفتقر بذلك إلى الإنتاج الفكري والمعرفي، والذي يتطلب مواكبة العصر بمصطلحات علمية حديثة، ورغم الجهود التي بذلت في هذا المجال، إلا أن تأخر إنشاء أكاديمية جامعة لكل المتغيرات قد أثر سلبا على الإنتاج الفكري بالأمازيغية، خاصة ما يتعلق بالبحوث العلمية، هذا الأمر يمس بدرجة أقل ميدان الأدب والإبداع الفني، كون كل منطقة تعبر بلسانها ولغتها الأم بكل ما تحمله من ثراء، وهناك إبداع حقيقي في مجال الشعر والقصة والرواية والنص المسرحي، وفي مجال الترجمة أيضا، وقد تم ذلك في ظرف قياسي بالمقارنة مع المدة القصيرة التي بدأت فيها تمازيغت انتقالها من الشفوي إلى الكتابي، ما يعني أن هناك نقلة نوعية في مجال الكتابة والإبداع باللغة الأم خلال السنوات القليلة الماضية، وهذا ما يبعث حقا على الفخر.

كيف تقيّمين واقع النشر في مجال الكتابة الأمازيغية؟

هناك تباين واضح بين مختلف مناطق الجزائر فيما يتعلق بالنشر بالأمازيغية، وهذا منوط بالحركة النضالية في هذا المجال، ومدى انتشار الوعي الهوياتي بين أفراد المجتمع، فبعض المناطق كانت سباقة إلى إنتاج الكتاب الأمازيغي منذ بدايات القرن الماضي، وقد كان الباحث سعيد بوليفة خير مثال على ذلك من خلال قاموسه في المتغير القبائلي الصادر سنة 1897. لقد ساهم التوجه السياسي الذي كان سائدا في الجزائر منذ الاستقلال في غياب الكتابة باللغة الأمازيغية في معظم مناطق الوطن، من خلال العراقيل المفتعلة في ميدان النشر والتوزيع، وكذا المضايقات الإدارية التي كانت تخنق الإبداع في المجال الأمازيغي. اليوم وبعد مرور عشرات السنين على الربيع الأمازيغي والانفتاح الذي شهدته الجزائر خلال ثمانينيات القرن الماضي تغيرت عديد المفاهيم وتوفّرت الكثير من الفرص للمضي بلغتنا من الشفوي إلى الكتابي، تحت حماية الدستور وقوانين الجمهورية، وكل هذا فسح المجال لعدد من الوجوه لتسجيل أسمائها في قائمة المبدعين بتمازيغت، فهناك مئات من الكتب الصادرة بمنطقة القبائل والعشرات بمنطقة الأوراس وميزاب وورقلة والهقار وصولا إلى مختلف نواحي القطر، وذلك في مجال البحث العلمي والأدب والفن والتاريخ، هذا الإنتاج الغزير في السنوات الأخيرة جعل الكثير من دور النشر تقبل على الكتاب الأمازيغي بعد أن امتنعت عنه لسنوات، وأتوقع أن تزدهر هذه العملية في المستقبل القريب، لأن الحاجة إلى الكتاب الأمازيغي ستزداد مع توسع تعليم تمازيغت وإجباريتها في مرحلة لاحقة، ومع انتشار الوعي الهوياتي لدى الفرد الجزائري بصفة عامة.

هل ترين بأن “ينار” قد تخلى عن الاحتفاليات الشكلية وغاص في أعماق صلب قضايا المجتمع الأمازيغي لغة وتاريخا وإبداعا؟

مناسبة “ينار” ملك لكل الجزائريين دون استثناء، وهي كما اللغة والتاريخ لا يمكن فصلها عن الكل، وما يرافق ذلك من تعبئة تخص الإعلام ومختلف مؤسسات الدولة والمجتمع المدني ما هي إلا وسيلة توعوية تعمل على تمكين المجتمع من احتضان ثقافته وتراثه وهويته بقناعة تامة، فالعودة إلى الجذور ليست بالمسألة الهينة بعد قرون من الاغتراب الثقافي والانسلاخ عن الذات والهوية، ولن يتأتى ذلك إلا عبر قراءة جديدة للتاريخ وتصحيح جديد للوقائع التاريخية والمفاهيم المغلوطة.

كيف تقيّمين مساهمة المرأة الأوراسية في مجال البحث في الشق الأمازيغي، انطلاقا من تجربتك وتجارب مبدعات وباحثات أخريات؟

معاناة المرأة مع الكتابة كبيرة جدا بسبب التزاماتها الأسرية والاجتماعية والتي لا يمكن أن يعفيها المجتمع منها بتاتا، وما عملية الكتابة إلا عبارة عن كفاح مستمر لإيجاد لحظات صفاء ومتسع من الوقت لاعتقال أفكار هاربة، ربما يكون الأمر اقل حدة حين يتعلق بعمل أدبي تكتبه المرأة بتوتر أقل وتضع له البدايات والنهايات التي تريد كالشعر والرواية، بينما تشتد الصعوبات مع الأبحاث العلمية التي تكون فيها المسؤولية عظيمة أمام المجتمع وأمام التاريخ، إضافة إلى ما يحتاجه هذا المجال من طاقة وجهد وتنقل، كل هذه الأسباب ساهمت بجد في إبعاد المرأة عن مجال البحث والتوثيق سواء في الأوراس أو باقي مناطق الوطن، ويمكن حصر عدد ضئيل جدا من المبدعات في مجال الأدب الأمازيغي واللواتي لازلن يكافحن من أجل إيصال أصواتهن للمجتمع وإبداعاتهن للقارئ.

الصراع لا يزال يصنع الحدث في مجال الأمازيغية حول الحرف والايدولوجيا، كيف تنظرين إلى هذا الجانب؟

ما نعيشه حاليا من صراع كان يمكن الاستغناء عنه لو تداركنا الأمر منذ السنوات الأولى للاستقلال، ولم يكن الأمر يحتاج إلا لإرادة سياسية صادقة وموقف شجاع، مرور كل هذا الوقت دون اتخاذ الإجراءات اللازمة المتعلقة باللغة والتاريخ والثقافة الأمازيغية خلّف ما يشبه كرة الثلج التي كبرت مع مرور السنوات. اليوم نحن أمام الأمر الواقع وفي عجلة من أمرنا ولا يمكننا العودة إلى نقطة الصفر والاستمرار في نقاشات لا تنتهي عن الحرف والكتابة، وهو ما من شأنه أن يستنفذ قوانا خاصة مع دخول تمازيغت في كل مراحل التعليم. لقد سبق وأن أصدرت شبكة “آوال” للكتاب بالأوراس منذ سنة بيانا تساند فيه الحرف اللاتيني للمضي في هذه المرحلة بالذات دون التوقف والبحث عن الحل الأنسب. فيما يخص حرف التيفناغ والذي يرمز للانتماء العريق لهذا الشعب فهو يحتاج إلى وقت أطول لاستعماله، كما يتطلب ذلك تعميم تمازيغت في كل مراحل التعليم وعبر كامل التراب الوطني كي لا تقع هذا اللغة في قوقعة الحرف الذي لا يعرفه معظم الجزائريين، وتعميم تدريس تمازيغت سيحتاج بدوره إلى وسائل مادية وبشرية كبيرة جدا لا يمكن توفيرها حاليا، ومن هنا فالأمور مرتبطة ببعضها، والكل مرتبط بعامل الوقت الذي ليس في صالحنا، وبالمرحلة الدقيقة التي تمر بها لغتنا اليوم، وكذا التحديات التي تهدد استمراريتها ووجودها، لذلك فالصراع في كثير من الأحيان يكون مفتعلا.

منطقة الأوراس تتوفر على دار نشر وحيدة تعنى بالنشر الأمازيغي وهي دار “أنزار”، فهل هذا كاف من وجهة نظرك؟

إنشاء دار نشر مختصة في الكتاب الأمازيغي في الأساس كانت مغامرة كبرى، لأن الميدان كان لا يزال هشا والمقروئية محدودة جدا، إضافة إلى شساعة المنطقة التي ينتشر فيها المتغير الشاوي، ما يتطلب عددا من دور النشر حتى تسمح للباحث والكاتب الأوراسي من إيصال رسالته للقارئ، وأمام كل التحديات التي تواجه الناشر باللغة الأمازيغية يترتب على الدولة استحداث آليات جديدة لدعم الكتاب الأمازيغي، من خلال تسهيل نشره وتوزيعه.

بمرور الوقت هل ترين أن ترسيم الأمازيغية كلغة رسمية قد قدم الإضافة المرجوة أم أنه مجرد ترسيم على الورق؟

مسألة الترسيم كانت مطلبا شعبيا أساسيا منذ عقود من أجل التصالح مع هويتنا وإعادة الاعتبار لتاريخ ولغة الأجداد، الترسيم الذي تم سنة 2016، ورغم ما يشوب المادة الدستورية من نقائص إلا أنه يضع عديد مؤسسات الدولة أمام مسؤولياتها تجاه الدستور، ويتيح لها استحداث إصلاحات هامة في مجال التربية والتعليم وفي الإعلام بكل وسائله، وقد بدأت أولى البوادر تلوح في الأفق من خلال عدد من الإجراءات في المقررات المدرسية، والاحتفال بـ “ينار” رأس السنة الأمازيغية بصفة رسمية كعيد وطني ويوم عطلة مدفوعة الأجر.

ما رأيك في مسألة استحداث أكاديمية للغة الأمازيغية؟

هذا سيكون له أثرا كبيرا في إنهاء الفوضى التي تشوب مسألة الأمازيغية في شقها اللساني، لأن العمل الأكاديمي يقوم على أسس علمية وبجهد مختصين وباحثين ميدانيين ضالعين في اللغة، وهو ما يتيح إعطاء فرصة لجميع المتغيرات الأمازيغية في الجزائر وعلى نفس القدر من الأهمية، وهذا ما افتقدناه طيلة سنوات من العمل بسبب عدة معطيات وأسباب.

هل من إضافة في الأخير؟

أعتقد أن ترسيم تمازيغت لا يزال في بداياته، والعمل على إرساء دعائم لهذا الترسيم سيستغرق وقتا طويلا، وهناك الكثير من النقائص، لأن المسألة معقدة أكثر مما نعتقد، والأمر يتطلب تحضيرات مترابطة، بداية بتوفير الموارد البشرية التي تؤطر هذا المجال، وكذا الأرضية المناسبة لاحتضان هذه الإجراءات وإنجاحها، وقبل كل هذا توفر الإرادة السياسية الصادقة لتجسيد العملية على أرض الواقع، فإنجاح هذه العملية منوط ببعض الخطوات الشجاعة وفي مقدمتها تعميم تعليم تمازيغت مثلها مثل اللغة العربية، فكلتاهما لغة وطنية ورسمية بمقتضى الدستور، وعلينا أن ننظر إليها نظرة فخر واعتزاز، إضافة إلى تصحيح التاريخ وتصويب المقررات المدرسية، لأن الأجيال القادمة يجب أن ترتبط أكثر بجذورها وهويتها الحقيقية التي هي هوية شمال إفريقيا.

مقالات ذات صلة