الرأي
فالنتين دو سان - بوان

من الاستشراق إلى التشرّق

ح.م

كثير من الغربيين والغربيات درسوا ودرسن المشرق الإسلامي في أوطانهم، أو قاموا وقمن بزيارات إلى بلدانه، سواء كانت زيارات علمية بريئة، أم بتكليف من مصالح الاستخبارات إعدادا لتقارير، أو أداء لمهمات..

إن بعض هؤلاء- ذكرانا وإناثا- الذين زاروا واللواتي زرن بعض البلدان العربية أعلنوا وأعلنّ اعتناق الإسلام، سواء عن اقتناع كمحمد أسد اليهودي النمساوي، أم في إطار ما كلّف به من جوسسة مثل لويس ماسنيون الذي سمى نفسه “محمد عبده ماسنيون”.

إحدى هؤلاء الغربيات هي الفرنسية فالنتين دو سان – بوان (Valentine de Saint-Point) التي ولدت في سنة 1875. وتوفى الله- عز وجل- والدها وهي لما تبلغ الحلم، فنشأت متمردة على والدتها، وعلى قيم مجتمعها، وعلى دينها النصراني، وأشبعت شهواتها، وتهافت عليها من يصطادون مثلها، خاصة أنها أوتيت جمالا أخاذا، كما استغلت شهرة عمها الشاعر الفرنسي الشهير لامارتين.

وفي السابعة عشرة من عمرها اقترنت بأستاذ في الأدب، رغم أنها كانت تعتبر الزواج كابحا للحرية كما تفهمها، ولكنها أقدمت عليه تحديا لأسرتها التي رفضت، هذا الزواج..

ولم يكن هذا الزواج سعيدا، لأن زوجها كان مريضا وضعيف الشخصية.. ولم يطل هذا الزواج بسبب وفاة زوجها. وبدل أن تحزن ككل امرأة فقدت زوجها فقد صرخت فرحة: “يا إلهي، لقد تحررت لكأنني ولدت من جديد”.

تزوجت فالنتين للمرة الثانية من شارل ديمون الذي كان سياسيا، حيث انتخب نائبا ورأس عدة وزارات، ولكنها لم تبق معه طويلا، وطلبت الطلاق فاعتبر هذا الطلب “تهورا”، وقوطعت من كثير من الناس بمن فيهم أسرتها.

كانت فالنتين تحب الأدب، وعندما تعرضت لهذه الحال النفسية شغلت نفسها بالأدب، وفي هذه الفترة تعرفت إلى كاتب إيطالي، وجدت فيه ضالتها في الاهتمام بالأدب، فاتخذته خليلا، وجعلت من بيتها “صالونا” يلتقي فيه الكتاب والمثقفون، فذاع صيتها في الأوساط الأدبية، وفي الطبقة العليا من الفرنسيين، ونشرت كثيرا من الأشعار والمقالات والقصص والمسرحيات، التي كانت كثيرا ما تخرج فيها عن تقاليد المجتمع، ودعمت ما تكتبه بمحاضرات فيها كثير من التمرد على قيم المجتمع.. وكان نشاطها الأدبي يتمحور حول المرأة وحريتها مع بداية العشرية الأولى للقرن العشرين.

في سنة 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى فأحدثت صدمة نفسية كبيرة في نفوس كثير من الأوروبيين، حتى إن بعضهم اعتبر اندلاع تلك الحرب نهاية الحضارة الأوروبية وسقوطها كما قال اشبنجلر، حيث سقط قناع التحضر الأوروبي، واستيقظ “التوحش”.

حاولت فالنتين الالتحاق بجبهات القتال فرفضت، فانخرطت في منظمة الصليب الأحمر.. ورأت مآسي الإنسان، وانحطاطه، وميكيافيليته..

وتبنت أفكار الفيلسوف فريدريك نيتشه، وتجرأت أكثر في دعوتها إلى “الحرية” الجنسية، وانتقدت العفة والأخلاق..

بعد نهاية الحرب سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقامت ببعض النشاط الأدبي والمسرحي، ولكنها لم تطق العيش في هذا البلد، فقررت العودة إلى وطنها فرنسا.

في هذه المرحلة، ولت فالنتين وجهها نحو دراسة الأديان.. ومالت إلى إحياء النزعة “الروحية” التي كادت تقضي عليها النزعة المادية.. وفي هذه الفترة قرأت أشياء عن الإسلام ومبادئه، وحضارته.. واطلعت على شيء من تاريخه وعادات المسلمين.. وبدأت بعد سلسلة من المقارنات بين الإسلام وغيره من الديانات يقتنع عقلها شيئا فشيئا بأن الإسلام يمكن أن يقدم للإنسانية ما تتطلع إليه من سعادة لو أقيم على حقيقته.

وفي هذه الأثناء قامت برحلة إلى المغرب الأقصى، ويلف هذه الرحلة غموض، وفي المغرب عايشت المسلمين في يومياتهم، فأعجبت بما رأت وأعلنت إسلامها، وسمت نفسها “روحية نور الدين”. وقد أرجع بعض الدارسين اعتناقها الإسلام إلى تأثرها بعمها الشاعر الكبير لامارتين، الذي كان متعلقا بالشرق..

رجعت فالنتين إلى فرنسا، واستقرت في جزيرة كورسيكا، وفكرت في أن تتخذها مركزا للحوار بين الشرق والغرب، وأسست معهدا يضم بعض المشرقيين وبعض الغربيين، ولكنه لم يلق قبولا، فانصرفت عن هذه الفكرة، وتوجهت إلى مصر، حيث كانت معجبة بتاريخ مصر، وبما كان يجري فيها آنذاك من نشاط سياسي وأدبي واجتماعي..

كان من أهم ما بدأت تنشط فيه هو حرة هدى شعراوي، وأسست لمساعدة الحركة النسوية في مصر مجلة سمتها “المصرية”. ولكن نشاطها لم يستمر في هذا الميدان حيث أبعدت بسبب أفكارها وآرائها، فحولت نشاطها إلى الاهتمام بعالم الفلاحين والقرية المصرية، خاصة الأطفال قبل سن التمدرس، واعترض نشاطها بعض المصريين لابتعادها عن خصوصية المجتمع المصري المسلم.

تضامنت فلانتين مع الشعب المصري في مقاومته للاحتلال الأنجليزي، وطلبت من أصدقائها الأوروبيين أن يساندوا مطالب المصريين، وأن ينددوا بأعمال الإنجليز في قمع الشعب المصري، كما ساندت الشعب السوري في ثورته ضد الفرنسيين، وحقه في الحصول على استقلاله..

ويذكر لهذه المرأة أنها باعت ما تملكه من حلي وأسست مجلة تحت اسم “الفينيكس” أي “العنقاء”، جعلتها وسيلة للدفاع عن الشرق وحضارته وقيمه، وقد استكتبت شخصيات غربية وشرقية..

ويذكر لهذه المرأة وقوفها ضد التغلغل الصهيوني في فلسطين، واتصلت من أجل ذلك بالشيخ أمين الحسيني، الذي شجعها على ما تقوم به ضد المخطط الصهيوني الغربي في فلسطين.

ورغم هذا لم تندد بسياسة فرنسا في بلدان المغرب العربي، ولا بالدعوة إلى مساندة ثورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي، ولا الأمير عبد المالك الجزائري.

لقد دعت هذه المرأة إلى إقامة برلمان إسلامي، وشجعت كل تقارب ين العرب والمسلمين، والمحافظة على خصوصية المجتمعات العربية والإسلامية، كما دعت إلى ما سمته “الدول العربية المتحدة”. وشنعت على تقليد العرب والمسلمين لفن العمارة الغربي.

ومن أهم ما خاضته فالنتين من قضايا سياسية وفكرية معارضتها لكتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق المسمى “الإسلام وأصول الحكم”. ورفضت ما دعا إليه من فصل الدين عن الدولة.

لقد تحولت فالنتين من الاستشراق كـ “علم” إلى ما سمته الدكتورة فوزية زواري “التشرق”، أي الانغماس في نمط الحياة الشرقية وعادات المشرق بالمفهوم الحضاري لا الجغرافي فقط..

وقد كانت فالنتين في مصر على صلة بمواطنها روني قينون، الذي أسلم، وتسمى باسم عبد الواحد..

وقد انتقلت روح هذه المرأة إلى بارئها في 14 مارس من سنة 1953.. بعدما شغلت الناس بجمالها وتهورها ثم بأفكارها ونشاطها.. والله- عز وجل- أعلم بحقيقتها، إن كانت هاجرت إلى الله ورسوله، أم إلى هدف آخر.. وهو الذي يجزيها عن هذا وذاك؟

مقالات ذات صلة