-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

 من تحطيم الوثن إلى تقديس الفكرة

 من تحطيم الوثن إلى تقديس الفكرة
ح.م

من خلال تحليل الحصص التلفزية النقاشية والحوارية والمقالات المكتوبة التي شغلت وملأتْ وسائط الإعلام والاتصال التقليدي والشبكي منذ مطلع هذه السنة تلحظ قاسما مشتركا واحدا يقطع مضامين تلك الحصص، من مركّبات عقدة التمركز على الذات، التي سربلتْ السياسي والمثقف والإعلامي والعلماني واليساري والإسلامي، عدا البعض منهم ممن توفرت لديه أدبياتُ المعرفة العميقة والمنهجية التحليلية وخُلق التواضع والبحث عن الحقيقة ولو كانت على لسان الخصوم.

وقد تأتتْ هذه العقدة المرضية لدى هذه النخب نتيجة غياب بوصلة الوعي الحقيقي والمعرفي لديهم، إذْ يُفترض في المتحدث أن يختار الموضوع الذي يدخل في نطاق تخصصه المعرفي ومساره التكويني والتثقيفي الذي كَوَّنَ فيه خبرة سنين عديدة، فحصَّلَ زادا من الكمّ المعرفي والنظري والتطبيقي، لأن ذلك أقدر له على التحدث والإقناع والتوجيه وإلزام الآخرين الحجة.. فضلا عن البحبوحة المعرفية والمنهجية والعلمية والنفسية التي يشعر بها وهو ينصت إلى حجج وأدلة المتحاورين الآخرين، وتصنيف كلامهم وحججهم ومنطقهم ولغتهم.. ثم وضعها في مواضعها. ومن ثَمَّ الرد عليها أو تصويبها أو التقاطع معها بالأدلة والحجج.

وقد عرضنا بالبحث العلمي والمنهجي كل ما وقعتْ عليه حواسنا من: مكتوب ومسموع ومرئي وشبكي وإلكتروني فوجدناه –في عمومه عدا البعض منه- مشوبا بالعوار المعرفي والعلمي والخبراتي، ومكسوا بالكثير من العقد المرضية والأسقام النفسية، وإلا فكيف تفسر ما افرنْقَعَتْ عنه الشهور السبعة من عمر الحَراك الشعبي من لغطٍ ولغو وحوار بين النخب الجزائرية من تشتُّت وفُرْقَةٍ وعداءٍ؟ وكيف تفسر وتفهم أيضا الطرائق القِددا التي آل إليها أمر النخب الجزائرية بعد هذه الحصص والجلسات النقاشية الكثيفة؟ وكيف تفسر إعجاب كل ذي رأي برأيه ومنطقه وتشبُّثه بأفكاره؟ مع استبعاد المأجورين والمسخَّرين من خلاصة الفتات الاستعماري المعشعش في مراكز التآمر الخفيّ داخل الجزائر وخارجها، ممن ليس له وظيفة سوى التعويق والكيد والتآمر..

وما اكتشفناه من تلك الحصص أنها شغلت الجزائريين عن القيام بواجباتهم الدينية والوطنية والاجتماعية.. كقراءة القرآن والتزام الصلوات في المساجد، والتزام الكثير من السنن النبوية، وغيرها من الواجبات الدينية كفريضة العمل والكسب الحلال، وفعل الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورعاية المحيط ونظافة البيئة.. والقراءة والبحث عن الحقائق والمعارف، وارتياد المكتبات لزيادة الكمِّ المعرفي في مسألة ومشكلات الحَراك الشعبي.

وفي دراسةٍ ميدانية تتبعنا فيها نوعية القراءة الخاصة بتخصص التاريخ والعلوم السياسية والمذكرات الشخصية للزعماء والقادة السياسيين والعسكريين وغيرهم، وللكتب المترجمة التي تناولت الثورات والانتفاضات وتجارب الشعوب في التحرر والاستقلال والتغيير والديمقراطية ونحوها.. أفادتنا تلك الدراسة بخيبات الأمل وضياع البوصلة لدى النُّخب التي لا تقرأ، بل تتحدث برأيها، ولاتَ من استشهد بكتابٍ قرأه عن منهج من مناهج التغيير في العالم، كتجربة ماليزيا وإندونيسيا وتركيا وإيران والهند والبرازيل وتونس.. فعندما تذكر للنخبة الجزائرية تجربة وخصوصيات (جماعة العدل والإحسان) في المغرب الشقيق المتميزة، ومنهجها وفلسفتها في التغيير بقيادة المجدد المصلح (عبد السلام ياسين 1929-2012م- ترك أربعين كتابا)، وبقيادة المرشد الجديد (محمد عبادي) لا يعرفها، وتقول له: إنها تجربة مغربية أو مغاربية بحتة، تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسة، وهي (لا للعنف، لا للسرية، ولا للارتباط التنظيمي بالخارج)، أو تجربة (جماعة الإخوان المسلمين) في سورية ومصر، أو تجربة (الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية سنوات 1989-1992م) أو غيرها من تجارب التغيير.. تصدمك ردات فعل هذه النخب، وعندما تقول له: على ما قامت عليه التجربة الماليزية؟ يسكت، فتقول له: قامت على محاربة الفساد بالفساد والفاسدين والمفسدين بالفساد والمفسدين.. كيف يمكن الإحاطة بذلك؟ تجيبه بأن ذلك يكون بالقراءة والتحليل والوعي والمقارنة.. لا باللغو وشذرات المعارف الإلكترونية التي تتساوى فيها النخبُ وعامة الناس.

كل الجزائريين سمعوا باعتقال المجاهد (لخضر بورقعة)، وإن سألتَهم وقد سألتُ النخبة وأحرجتهم (من قرأ منكم مذكرات الرائد بورقعة شاهد على اغتيال الثورة)، هنا يسكت الجميع، وإذا سألتهم هل علمتم أن النائب (حمود شايد) اعتقِل؟ يجيبون بنعم، ولكن إن سألتهم من اقتنى مذكراته القيِّمة وقرأها، وعنوانها (دون حقد ولا تعصُّب) ترجمة (كابوية عبد الرحمن وسالم محمد وطبع دار دحلب 2010م)، وهي مذكراتٌ مهمة جدا وفيها الكثير من الحقائق من وجهة نظر المجاهد، تجد الإجابة السابقة نفسها.

وهنا أودُّ أن تتوجه النخبة مجددا إلى المكتبات وتعيد قراءة ما قرأته وما لم تقرأه، لأن قراءة بعض من كتب مالك بن نبي كـ(شروط النهضة، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، الظاهرة القرآنية، مذكِّرات شاهد القرن، دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين، المسلم في عالم الاقتصاد، ميلاد مجتمع..) تقودنا مباشرة إلى معرفة نظرية التغيير عند مالك، وهي عنوان هذا المقال (من الوثن إلى الفكرة)، فمالك يرى أن حياة الأمم تسير وتتدرَّج نحو النضج والتغيير والنهضة عندما تمر بالمراحل الآتية: (مرحلة الطفولة والتعلق بعالم الأشخاص، ومرحلة التعلق بعالم الأشياء، ومرحلة التعلق بعالم الأفكار)، وهي التي وصلتها نضالاتُ الشعب والجيش معا، وما بين كل مرحلةٍ ومرحلة أجيالٌ وسنوات من العمل والنضج والاجتهاد والنضال الفردي والجمعي.. ونظرية التغيير عنده تقوم على مرحلة (الغريزة، الوجدان، العقل، الروح)، وبين كل مرحلة ومرحلة أجيال وأزمان من العمل والجِدّ والنضال الفردي والاجتماعي.. وهكذا سائر نظريات التغيير العالمية المشهورة كنظرية (إرنولد توينبي التحدي) و(شبنجلر والصعود الآري)، و(كارل ماركس والصراع الطبقي وقانون الحالات الخمس) و(ماوتسي تونغ وبروليتاريا الفلاحين والكومنتون..)، ونظرية الجاسوس البريطاني وقائد جيوش الخائن (الشريف حسين. ت 1925م) لدحر الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (لورانس وأجنحة الحكم السبعة) و(شمعون بيريز في الشرق الأوسطية الجديدة) و(مايلزكوبلند ولعبة الأمم) و(هنري كسنجر في تغيير السياسات العالمية) و(الخميني وولاية الفقيه)..

المعرفة العلمية والتراكمية مُهمَّة بالنسبة للمحللين الناضجين، وهي حجر الأساس لروح الوعي وخط الرشاد الذي يجب أن تُسوِّقه النخب لتنير عقول الحَراكيين، لا لتضللهم وتضبِّب عليهم المشهد الحَراكي الصافي، وهو السبيل الوحيد للخروج بالرأي الصائب، والصالح بالنسبة للجزائر وللجزائريين في المرحلة الراهنة.

ولعلني أطمئن غيري من النخب أنني بالقراءة اطلعت على الكثير من التجارب التغييرية في العالم، وأنا مطمئنٌّ لانسجام مسار الشعب والجيش ووحدة منطلقهما وخطهما وهدفهما، وها أنا أسوق لكم فقرة من كتاب أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين في سورية سنوات 1961-1987م العالم (سعيد حوى 1935-1987م) من كتابه (هذه تجربتي وهذه شهادتي طبعة مكتبة رحاب 1990م)، وهو خلاصة تجربة (جماعة الإخوان المسلمين في سورية)، ولأن سورية بعد الاستقلال 20/04/1946م مرَّت بأفضل تجربة ثلاث مراحل ديمقراطية انتخابية برلمانية عربية رائدة، ولكنها عُطلت بسيول من الانقلابات العسكرية، فيقول في ص 64، في أحداث سنة 1961-1964م: ((إن الحياة الانتخابية في العالم الثالث لا قيمة لها إذا لم تكن مدعومة بالجيش والشعب بآن واحد، وإن سورية تحتاج إلى حياة نيابية يحميها الجيش والشعب، وهذا لن يتم لسورية، إلاّ إذا وُجد دستور وميثاق وقانون انتخابي ذو مواصفات وشروط إذا ما أردنا أن تشكل سورية المستقبل أنموذجا رفيعا ومستقرا)).

لقد كتب الشيخ (سعيد حوى) هذا الرأي بعد خلاصة تجربة ستين عاما مريرة ومرعبةً، ولو استبدلنا كلمة (سورية) بـ(الجزائر) سنجد أنفسنا أننا أمام خلاصة وتجربة حركة تمنت أن تتوفر لها الشروط نفسها التي توفرت للأمة الجزائرية اليوم، إنها فرصتُنا التاريخية النادرة، التي لن تتكرر إلاّ بعد جيلين أو ثلاثة أجيال، فرصة تغييرية وحضارية متميزة ورخيصة الثمن، منحنا الله سبحانه وتعالى إياها عندما مَنَّ علينا بقيادةٍ عسكرية وطنية أصيلة، وشعب واعٍ ومتيقظٍ ومتفهِّمٍ ومسالمٍ، فماذا تنتظرين أيتها النخب سوى أن تسيري خلف شعبك وجيشك، ثم تتقدمين –بالوعي والإخلاص وحب الوطن- شيئا فشيئا لإخراج الجزائر من عبادة الأشخاص والأوثان.. ومن عبادة الأشياء والممتلكات.. نحو عالم الفكرة المقدسة، والمبادئ النوفمبرية الفاضلة.. إن فاصل ذلك وحده هو: الوعي السليم، ومحبة الوطن والأمة الجزائرية. فهل نحن المعنيين بهذه اللحظة التاريخية؟ جواب ذلك: الذهاب إلى صناديق الاقتراع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
9
  • هناك سحر ما

    عندما رايت هذه الصورة حدث معي مغص حاد

  • أبو جابر

    حداثة عهد الشعب الجزائري بالإستقلال بما في ذلك نخبته، من أسباب وجود هذه العيوب النفسية، فعمر المجتمع لم يسمح بتكوين شخصية متوازنة للفرد الجزائري عموما، زيادة عن الموقع الإستراتيجي المتوسط المنفتح على ثقافات قوية و ضاربة في التاريخ حيث لا يستطيع تكوين شخصية معرفية و واعية بصفة عامة

  • حراك او حرام

    هل يجوز لي ان اقول لك شكرا

  • كتاب لا يليق بك ان تحب

    كتاب ضمن موسوعة العلوم الانسانية يستهل الكاتب المقدمة بحديث عن مأتم احد الادباء في بريطانيا عندما اكتشف ان زوجته تخونه يوميا ولم يتفطن لخداعها وجلس في البيت مع الاولاد حتى ظهر الدليل او دليل الادانه فهم يروح مجيئا ورواح يبحث عم ن سيوقعها في حفرة يلقي بها الى الابد ولكن حدث العكس

  • من اين

    تاتي الاستقامة وشعب يحتاج الى ترشيد استهلاك الماء

  • المجسم الآلي

    من منا يرفض الالة ومن منا يتقبل تلف عضو ما ليعوض ذلك مساعد كهربائي خاضع لعالم الموجب والسالب او اللحظة التشغيل هنا مرتكزات الامة يجب
    عليها تقديس اللحظة بدل الاستعانة باشياء واهية ممكن ان نكون مرحلة قريبة جدا الى النهاية وفوات الاوان عندما تكون الحسائر اكبر مما نتوقع

  • قصة ادب

    ما يكتب مبني للمجهول الفاعل غير موجود على ارض الحراك
    فيه ادباء العصر الاوروبي النهضة او القرن 16 اثناء وضع بعض اساليب الادب والخيال والشعار وبعض الصيغ و1 عسكري يرمز للسيادة و1 وراء القضبان ينتظر جلالة العدل واخر يرتمي في دهاليز وتقلبات الاسواق و الحصول على ما يسد رمقالجياع واخر فوق الرصيف لم تصله بعد منحة متقاعد او معوق وتاتي وزارة تضامن وتفرج عن قاون المالية....

  • هل حقا كلمة تغيير مناسبة.....

    ليس مشكلة الشباب والتغيير او مصطلح
    مستقبل الامة
    او التغيير ياتي من الداخل الالفاظ العسلية التي تنقد او تشخص او تقيم حركة هي حو محور ثابت تنزل بسقوط حر
    عفوا اهناك خطأ فيزيائي بحت

  • مزحة مزعجة

    الحراك او الربيع
    لما لا تكون تحلل لجثث واقفة تكتوي من عوامل الطاغوت الذي يعرب عن طغيانه في كل مراحل من مرحلة الى اخرى ياتي بابواقه وجلسائه واصحابه ويضع لهم صور ويعلقهم على الجدار في وسط المدينة انتحب فاتن بن فلان او زيد او عمر والمصائب تنجر كلها من ماجاء في الدستور وعن اي دولة تتكلم يا هذا