-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

موسم الحرّ.. وظلال الجنّة

سلطان بركاني
  • 362
  • 0
موسم الحرّ.. وظلال الجنّة

نعيش في هذه الأيام حرا شيدا نكابده ونعانيه ونشكو إلى الله حالنا معه.. هذا الحرّ يدعونا لنتأمّل حالنا وأعمالنا لعلّ التدبّر ينفعنا.. حرّ يذكّرنا بضعفنا وقلّة حيلتنا، ويقرع قلوبنا بحاجتنا إلى رحمة الله ولطفه، ولنا أن نتخيّل لو ارتفعت درجات الحرارة فوق الستينات، كيف تستمرّ حياتنا؟ وكيف تكون معيشتنا؟
في أيام الحرّ هذه نتذكّر معاناة من يسكنون الصّحاري ولا يملكون أدنى المقوّمات التي تمكّنهم من التعايش مع الحرّ، ونتذكّر معاناة أصحاب الأمراض المزمنة، أمراض الضّغط والرّبو والحساسية، ونحمد الله على نعمة العافية.. الله تبارك وتعالى ابتلاهم لينظر هل يصبرون وهو العليم سبحانه، وعافانا لينظر هل نشكر وهو العليم تقدّست أسماؤه.. يقول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: “نعمتان مَغْبُونٌ فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ” (البخاري).
مع هذا الحرّ، ونحن نرى من حالنا كيف نفرّ إلى الظلّ من لفح الشّمس، نتذكّر نعمة الله -تبارك وتعالى- في خلق الظلّ وتسخيره: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا))، ((وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا)).. ولنا أن نتخيّل هذه الدّنيا من دون ظلّ كيف تكون: ((وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُور)).. ونحن نتذكّر هذه النّعمة نتذكّر كذلك واجبنا في الحفاظ عليها، فيحذر الواحد منّا أشدّ الحذر وهو يفرّ بأهله من حرّ المدينة إلى جوّ الغابات المنعش، من أن يكون سببا في حريق يهلك الغابات ويهدّد حياة الآمنين.. في كلّ عام نفجع بحرائق مروّعة تذهب فيها هكتارات شاسعة من الغابات والأراضي، بسبب جشع بعض الجشعين، وتهاون واستهتار بعض المستهترين؛ يدخّن الواحد منهم ويرمي عقب سيجارته، أو يشعل نارا لإنضاج الطعام أو شيّ اللّحم، ثمّ ينصرف في المساء ويترك جمرها متقدا. ((وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين)).
هذا الحرّ يذكّرنا ونحن نرى من حالنا كيف نبحث عن ظلّ لسياراتنا وكيف نغطّيها حذرا من أشعّة الشّمس الحارقة أن تفسد طلاءها؛ يذكّرنا هذا الحرّ بواجب من أعظم الواجبات التي فرضها الله علينا، واجب حماية زوجاتنا وأبنائنا من النار: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون)).
الله -تعالى- أمرنا أن نحذر على أبنائنا النّار ونحوطهم ونحميهم منها، أمّا الفقر فإنّه -سبحانه- لم يأمرنا بأن نخافه على أبنائنا، قال سبحانه: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ))، وقال: ((نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)).. فليس يصحّ ولا يليق أبدا أن نتفانى في إطعام وكسوة أبنانا وفي الحرص على دنياهم، ثمّ ننسى آخرتهم.. ليس يليق أن نخاف عليهم الجوع والعري ولا نخاف عليهم عذاب الآخرة.. ليس يستقيم أن نخاف عليهم حرّ الشّمس فنمنعهم من الخروج في أيام الحرّ هذه ولا نخاف عليهم حرّ جهنّم!
في أيام الحرّ هذه نتذكّر نعمة ربّنا في هداية عباده إلى هذه الاختراعات الحديثة التي تيسّر حياتهم، خاصّة هذه المبرّدات التي تحوّل الماء الدّافئ إلى ماء بارد ينعش النّفس ويريح البدن، وهذه المكيّفات التي تتحوّل معها الأجواء في البيوت وأماكن العمل والمساجد والسيارات من الحرّ الشّديد الذي تضيق منه النّفوس إلى جوّ لطيف منعش ترتاح فيه الأنفس، قال تعالى: ((وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُون))، ومن بدائع القرآن أنّ الله -تعالى- قال في هذه الآية: ” سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ”، ولم يقل: “ثياب تقيكم الحرّ”، والسّربال أشمل من الثّوب، وهو كلّ ما يتقي به العبد شيئا يحذره، وليس بعيدا أن تدخل فيه كلّ ما يسخّره الله لعباده ويهديهم إليه من مخترعات: ((وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)).
ونحن ننعم في بيوتنا بنعمة الظّل والماء البارد، ويتقلّب كثير منّا في نعمة المكيّفات، ينبغي أن نحمد الله على هذه النّعم، وينبغي أن نتذكّر مع ذلك أنّها نعم زائلة، وأنّها لا تساوي شيئا إذا خسر الإنسان نفسه وخسر الآخرة، وكان مصيره إلى ظلّ جهنّم الذي لا يغني من الحرّ ولا من اللّهب: ((وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ))، ((وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)).
ونتذكّر في المقابل ونحن ننعم بالظلّ والماء البارد في البيوت وأماكن العمل وفي المساجد، نتذكّر نعيم الجنّة الدّائم الذي لا ينقطع ولا يتحوّل ولا يزول، حيث الظلّ الممدود المنعش، والماء البارد المتدفّق من العيون، والممزوج بألذّ وأحلى النكهات: بالرحيق والتسنيم والكافور والزنجبيل: ((إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيم)).
وكما نبذل من أموالنا الشيء الكثير لشراء الثلاجات واقتناء المكيّفات، ينبغي ألا ننسى أن نبذل من أموالنا ما نشتري به الظلال الوارفة والعيون الجارية في الجنّة: ((وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ)).. ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)).
ظلال الجنّة وعيونها معروضة لكلّ عبد يريد أن يشتري، والثّمن ليس مالا نأخذه معنا إلى هناك.. إنّما هو أعمال صالحة نقدّمها هنا.. فقد تشتري -أخي المؤمن- ظلال الجنة وعيونها بركعتين خاشعتين في جوف الليل والنّاس نيام.. قد تشتري ظلال الجنة بصيام يوم شديد حرّه تبتغي الأجر من الله.. قد تشتريها بمبلغ من المال تضعه في يد فقير أتعبه الفقر وأرهقته الحاجة، أو في يد أرملة تغلق باب بيتها على هموم وحاجات تنوأ عنها الجبال.. قد تشتريها بأرض فانية تهبها ليُبنى عليها بيت من بيوت الله أو مدرسة يتعلّم فيها أطفال المسلمين كتاب الله أو تهبها مقبرة يدفن فيها المسلمون موتاهم.. قد تشتري ظلال الجنّة بقبلة ترسمها على جبين أمّك أو رأس أبيك.. قد تشتريها بموقف عفو عن أخيك، ينافسك في عرض فانٍ من الدّنيا فتتركه له ابتغاء وجه الله.. قد تشتري ظلال الجنّة بابتسامة صادقة في وجه أخيك المسلم، وقد تشتريها بمسحة من يدك حانية على رأس يتيم… وقد تشتريها بكلمة حق تردُّ بها ظالمًا أو تنصر مظلوما.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!