الرأي

نداء تونس: الباجي قائد السبسي

ح.م

قفز الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي إلى قلب المرحلة، طائعا وليس راغبا في كرسي رئاسي، لم يعد يعنيه بعد عقود من الزمن شغل فيها أرفع المناصب، جعلته الاسم اللامع في التاريخ السياسي التونسي المعاصر.

فما عُرف بـ”ثورة الياسمين” كان الانتقال المفاجئ نحو فراغ سياسي لم يجد من يشغله، إلا في إطار دستوري، مهد قيام جمهورية جديدة، كادت تأخذ شكل صراع يغلق الأبواب بوجه تجانس مجتمعي تعددت قواه الفاعلة والمتباعدة إيديولوجيا، لولا ترسيخ قاعدة التوافق الوطني وإعلاء مبدأ الشراكة في إدارة شؤون البلاد.

وتعدُّ الأزمة أمرا واقعا تفرزه استحقاقات الانتقال الديمقراطي الذي يعدُّ الأول من نوعه في العالم العربي، وحال الأزمة في تونس، سرعان ما تم احتواؤُها، بما كسبت إعجاب العالم، حين ارتقت أكبر القوى السياسية إلى إحياء قاسم اللقاء المشترك بينها، والنأي عن مساوئ الصراع السياسي، لمجابهة التحديات التنموية، ومحاصرة الخطر الإرهابي الساعي عبثا نحو ضرب قواعد الاستقرار الأمني.

عاد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي مالكا المهارة في توظيف أدوات القيادة الحديثة، في قلب هذه الأزمة، مدركا أن قيمة التوافق السياسي المنطقي، هي القادرة على حل عُقدها، بمنظار يرى أبعد من مديات بصر سياسي أناني حالم بحكم فردي لا يأذن لأي شريك فيه.

كان يملك خصائص القائد المنفتح على كل القوى، متحررا من كل أشكال التزمُّت والتطرُّف في مجتمع ديمقراطي عربي جديد، فشهدت تونس في عهد رئاسته استقرارا سياسيا أفرز مجتمعا مدنيا متجانسا برغم التنوُّع في الاتجاه الفكري والعقائدي.

كان يمكن لتونس أن تأخذ شكل حكم أحادي كما كانت من قبل، لا تعرف التوافق، ولا ترتقي بقيم المشاركة في بناء صرح دولة جديدة، لولا توافق حزب نداء تونس الذي أسسه الرئيس السبسي مع حركة النهضة بقيادة الشيخ راشد الغنوشي، توافق أضحى تحالفا سياسيا تشاركيا في إدارة العملية السياسية وقيادة الدولة، جنى ثماره في بناء مؤسسة حكومية وبرلمان تعددي، يضمن انتقالا شرعيا سلسا للسلطة مع انتهاء كل دورة تشريعية أو عهدة رئاسية.

حركة النهضة كانت الأقوى في أول معركة انتخابية بعد “ثورة الياسمين” وهي تفتح باب التحالف مع أحزاب علمانية، جعل رئاسة الحكومة من حصتها، لكنها أخذت المرتبة الثانية في انتخابات 2014، حين ظهر “نداء تونس” للوجود معلنا عودة السبسي زعيما سياسيا تعرفه مختلف الأجيال التونسية، وتثق بقدرته في إدارة الشأن السياسي.

لكن القاعدة الجماهيرية العريضة التي كسبها الرئيس الراحل السبسي، لم تُغْرِه، ولم يجد في ذاته القوة الأوحد، فأبقى على المشاركة السياسية الأوسع، وأحيى التحالف مع حركة النهضة قبل أن ينفصلا تمهيدا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المرتقبة.

رحل السبسي تاركا تقليدا سياسيا توافقيا لم تعرفه أنظمة الحكم في العالم العربي من قبل، قد تأخذ به أجيال حكم قادمة.

مقالات ذات صلة