الرأي

نوفمبر و”السلطان مندريس”

خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد إلى أنقرة في ثمانينيات القرن الماضي، اعتذر له الأتراك رسميا عن الموقف المتذبذب، إن لم نقل المخزي، الذي اتخذوه من الثورة الجزائرية. وقبل الشاذلي اعتذارهم على مضض، موضحا أن الشعب الجزائري كان ينتظر منهم، باسم الأخوة الإسلامية، وباسم تاريخ ضارب في الماضي جمع البلدين، أن يغلّبوا مصلحة الأمة على مصالحهم الضيّقة.

تركيا ولبنان هما البلدان الإسلاميان الوحيدان اللذان لم يؤيّدا الثورة الجزائرية. موقف لبنان راعى علاقة هذا البلد الطيّبة بفرنسا، وهو، على أيّة حال، ليس مقام حديثنا الآن. أما تركيا، فإن موقفها ما زال يثير إلى اليوم وخز ضمير لدى النخب التركية. وقد أتيح لي مؤخرا الخوض في هذا الموضوع مع مثقفين تركيين هما إبراهيم شعبان، أستاذ بكلية الآداب جامعة اسطنبول، والأستاذ أوغلو اللذين بررا موقف تركيا “الحيادي” بالمادة السادسة لميثاق الحلف الأطلسي التي تنصّ على أنه في حال تعرض أراضي أيّ دولة من أعضاء الحلف لأيّ هجوم، فإن الدول الأعضاء الأخرى تهبّ لمساعدتها، و”الجزائر، في رأيهما، تدخل في هذا الحكم”. ويضيفا “إن العلاقات الاقتصادية والسياسية المكثّفة بين تركيا وفرنسا منعت تركيا من اتخاذ موقف إيجابي مع الثورة الجزائرية”.

والحقيقة أن الموقف الرسمي التركي من حرب التحرير اتسم بالازدواجية. فمن جهة، التزمت الحكومة الحياد حيال الصراع الدائر على الأرض الجزائرية، بل وافقت على استعمال قوات الناتو لقمع الشعب الجزائري. ومن جهة أخرى، عبّر العديد من المسؤولين الأتراك على المستوى الشخصي عن تعاطفهم مع الجزائر في كفاحها من أجل نيل الاستقلال. ويورد إبراهيم شعبان كدليل على هذا الموقف التصريح الذي أدلى به رئيس الوزراء عدنان مندريس:”نحن نشعر بسعادة بالغة لحصول كلّ من تونس والمغرب على استقلالهما، ولا شك أن الأحداث الجارية في الجزائر تؤلم قلوبنا، وبحكم التزامنا نحو العرب، وتعاطفنا الفطري القائم مع نضالهم لنيل الاستقلال، نحن نتمنى ونرجو أن تنتهي أزمة الجزائر إلى نتيجة عادلة في أقرب وقت ممكن دون إفراط. وإذا قدّر لتركيا أن تلعب دورا في هذا الشأن فنحن على أتمّ استعداد للقيام بذلك”.

وقد بدأ التغيّر في الموقف التركي عندما استقال النائب في البرلمان عن الحزب الديمقراطي، ورئيس جمعية الصداقة التركية الفرنسية، منيب خيري أورغوبلو من منصبه احتجاجا على السياسة الفرنسية في الجزائر والممارسات الاستعمارية المنافية لحقوق الانسان. ولم تعلن الحكومة التركية في التصريح عن دعمها لكفاح الجزائريين إلا في 27 ماي عام 1960 .

وفي الموقف التركي الحيادي والمتذبذب من كفاح الجزائريين اسم، هو رئيس الوزراء عدنان مندريس، أو “السلطان مندريس” كما يسميه الأتراك.

وعدنان مندريس شخصية سياسية كاريزمية جمعت بين الطموح العارم لكمال أتاتورك وبراغماتية مرنة كما نراها اليوم عند الطيّب أردوغان.

ينحدر عدنان مندريس من عائلة من كبار ملاّك الأراضي، زاول تعليمه في مدرسة أمريكية، وربما هذا ما يفسر ولاءه المطلق لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة. بعد إنهائه الدراسة في جامعة أنقرة عاد إلى مسقط رأسه لينصرف إلى عمل الأرض. وكان تعلّقه بالأرض والفلاحين مضرب المثل، وهو ما دفعه إلى القيام بإصلاح زراعي جذري، واتسمت سياسته في هذا المجال بعملية تحديث شاملة للزراعة.

بعد رحيل كمال أتاتورك شرع مندريس في انتهاج سياسية ليبرالية تقوم على تقليص دور الدولة في المجتمع، ومحاربة جمود الطبقة السياسية، والتخلي عن نظام الحزب الواحد. أما على المستوى الخارجي، فقد عرف عدنان مندريس بولائه المطلق للولايات المتحدة، ووقوفه وراء إنشاء حلف بغداد الموجه ضد ما عرف بالتوسع السوفييتي. وقد نتج عن سياسة مندريس الخارجية، وخاصة موقفه السلبي من الثورة الجزائرية مشاعر مناوئة للأتراك في البلدان العربية، وأصبح مندريس يوصف بالسلطان الذي يسعى إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية. في 1960 انقلب العسكر على عدنان مندريس، واتهم بخرق الدستور وتم إعدامه.

أما على المستوى الشعبي، فقد حظيّ نضال الشعب الجزائري، كما يلاحظ إبراهيم شعبان، باهتمام الصحف التي كانت تنشر أخبارا خام دون تعليقات أو تحليلات تؤخذ من وكالات الأنباء والصحف الغربية. وذلك لأن معظم الصحفيين الأتراك في تلك الفترة كانوا لا يعرفون اللغة العربية، فضلا عن أن فرنسا كانت تمنع دخول الصحفيين الأجانب إلى الجزائر حتى نهاية 1957 .

وقد اشتهرت ثلاثة أسماء من كبار الكتّاب في تركيا بالتضامن مع كفاح الشعب الجزائري والتنديد بالسياسة الاستعمارية الفرنسية، وهم يعقوب قدري قره عثمان أوغلو، وهو روائي وشاعر وصحفي ودبلوماسي، وجودت قدرت صولوق، وهو مؤرخ أدبي، والشاعر فاضل حسنو داغلارجه، الذي ألّف باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية قصيدة جميلة بعنوان “أنشودة الجزائر”.

عدنان مندرس

مقالات ذات صلة