-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هكذا دافع فرحات عباس عن الرسول الكريم

نبيل عاشور
  • 518
  • 0
هكذا دافع فرحات عباس عن الرسول الكريم
ح.م

ما تشهده فرنسا هذه الأيام من جدال بسبب الإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من طرف أعلى سلطة سياسية، لم يكن حدثا عابرا أو صدفة في الثقافة الفرنسية، فالحقد على نبي الإسلام ليس وليد اللحظة، بل له جذور تمتد إلى العهد الاستعماري، فبعدما سلب أراضي الجزائريين واضطهادهم وتقتيلهم، جاء الدور على الإسلام ورموزه، وذلك في الوقت الذي أصبح أهله مجرّدين من أي قوة للدفاع عن كيانهم المغتصَب أرضا وروحا، غير أن هناك أصوات جزائرية جريئة تخرّجت من المدرسة الفرنسية نفسها دافعت عن الإسلام ونبيه في ظروف صعبة وخطيرة، مستعملة في ذلك الأدوات الفرنسية المتاحة بصفة جزئية من صحافة وإعلام، ومن بين هذه الأصوات شاب جزائري تألم قلبه لكثرة التنكيل بالإسلام والمسلمين، ولأنه مدركٌ أن هامش حرية التعبير المتاح لا يؤمِّن له حياته في مجتمع كولونيالي لا يرحم، اختار أن يكتب باسم مستعار وهو  “كمال بن سراج”،  انه الشاب الجزائري فرحات عباس.

في إطار احتفال فرنسا بمئوية احتلال الجزائر سنة 1930، صدر كتابٌ فرنسي بعنوان “الإسلام وسيكولوجية المسلم” لصاحبه “اندري سيرفيي”، لم يترك كبيرة ولا صغيرة عن الإسلام والمسلمين إلا ومرَّغها في التراب، حتى وصفه الشاب الجزائري المثقف آنذاك فرحات عباس بكونه “معلما في الحقد على البشرية”، وقام بالرّد على ما جاء فيه بمقالة تحمل عنوان: “الاستعمار والأحقاد الدينية على الإسلام والنبي” صلى الله عليه وسلّم.

 قراءة مقال فرحات عباس يدعوك لاكتشاف معدن الرجل الأصيل الذي لم تصل معاول التهديم إلى قلبه رغم أنه خريج المدرسة الفرنسية، فابن أحد “القيّاد” الذين خدموا الإدارة الفرنسية بإخلاص استفاد من كل الامتيازات التي مُنحت لوالده من مال وتعليم وتكوين عالي، دخل إلى الفرن الفرنسي بقالب جزائري، لكنه لم ينصهر في قالب آخر كما حدث للبعض الذين أذابتهم الحرارة الشديدة وأخرجتهم في قالب غريب لا هو جزائري ولا هو أوروبي، فرحات عباس خرج من الفرن الفرنسي يحمل في يده أدوات فرنسا الحرة للدفاع عن بني جلدته، فأضواء باريس لم تعمِه عن أصالته وحبه لدينه، ولهذا لما يدافع عن النبي محمد صلى الله عليه وسلّم يقول عنه “نبينا المحبوب”، وعندما يعلّق على تهديم فرنسا للمساجد يتحداها وفي رأسه شيء لم يصرّح به بعد فيقول: “لا فائدة.. إنني أحمل في قلبي مسجدا من الغرانيت والحديد الصلب لن يتهدم أبدا”.

عندما رفع فرحات عباس قلمه للدفاع عن النبي الكريم لم تكن في تلك اللحظة أي مقاومة للظلم يُستخدم فيها الحديد، كانت فرنسا قد استحكمت سيطرتها على جميع الرقاب واستتّب لها الأمر لبناء “الجزائر الفرنسية” بالطراز الذي تريد، في تلك الظروف لا يمكن ان تصف قلم “كمال بن سراج” سوى بالسّلاح المقاوِم المتاح، وعن تلك اللحظة يقول: “واليوم، وبالرغم من تفوّق أوروبا الذي لا يمارى، وانحطاط العالم الإسلامي، فإن المسيحية لم تضع السلاح، إنها تتمادى في كفاحها منذ قرون، ضد عدوّ سقط منذ أمد بعيد، وقد أعطتنا مؤخرا فرصة الحكم على كتاب يعدّ معلما في الحقد، ونقصد به كتاب “الإسلام وسيكولوجية المسلم” لصاحبه اندري سيرفيي”.

الكتاب الصادر باللغة الفرنسية لم تكن حروفه مصدر انبهار لمثقف مثل فرحات عباس، بل أشعلت في صدره حريقا مهولا من الغيرة عن النبي الكريم وهو يقرأ فيه هذه العبارات: “محمد بدوي مكي، ولكنه بدوي ساء معدنُه، محرومٌ من الخيال، مثل معظم البدو، لم يفكر محمد وهو في غار حراء في المستقبل، ولكنه فكّر في الماضي وفي الحاضر، فبعث من جديد شبابه البائس ومعاناته من الحرمان والمهانة بين الأثرياء.. إن محمدا لم يتحدث عن تعليم المرأة.. ولم يكن له أي همّ أخلاقي”؟!

لقد سخر فرحات عباس من كتاب يضم 500 صفحة استغرق انجازُه 25 سنة ليصل إلى نتيجة تُبيِّن “العقم الكئيب للإسلام في مقابل حيوية الفكر الإغريقي اللاتيني الخالد”.. واعتبر أن “الرد على هذه الاتهامات يبدو بالنسبة إلينا وقتٌ ضائع”، ولهذا كان الرد بأسلوب هجومي أكثر منه دفاعيا، هجومي لأنه يعرف جيدا مواطن الضعف في الثقافة الفرنسية الزائفة، ويعرف مكامن النفاق فيها، وكونه جزءا من الثقافة الفرنسية الحقيقية التي أنتجها الإنسانُ الفرنسي المجرَّد لا المحتلُّ الحاقد، فقد كان الردّ قاسيا، قاسيا لأنه لم يكن بالطريقة التقليدية المعهودة وهي التنديد والاستنكار، قاسيا لأنه يحمل في مضمونه أدلة لزيف الادِّعاء، أدلة أنتجتها العقول الفرنسية المحايدة والمُنصفة، مثل “هيمولدت ألكون” حينما استشهد بمقولته: “إنه لابدّ أن يُنظر إلى العرب على أنهم هم المؤسِّسون الحقيقيون للعلوم الفيزيائية التجريبية.. لقد ارتقوا في مجال التجريب إلى درجةٍ تكاد تكون غير معروفة للقدماء”.

وقد أبرز فرحات عباس أسلوبا رائعا في وصف نبي الإسلام للقارئ الفرنسي، وبهذه الكلمات البسيطة كان سبّاقا في محاربة الفوبيا من الإسلام وهو أسيرٌ جريح في أرض مغتصبة.. يقول: “لقد عاش محمد في أضواء التاريخ الساطعة، وكل شيء يلتقي فيه ليُظهره رجلا سليما، قويا ومقاوما، فكان فقيرا لكنه لم يعرف البؤس أبدا، وُلد في مكة ونشأ في البادية، يتغذى بالحليب ويلبس الصوف.. كانت حياته بسيطة فاضلة، وآراؤه منصفة وأحكامه سليمة، وقد سمّاه معاصروه بالأمين”.

ويتابع فرحات عباس “عندما دقت ساعة الانقلاب في حياته لم يفكر مطلقا في الانتقام من بلدة كانت تشرّفه وتقدّره.. إنه لم يكن معلّما للأخلاق وحسب، ولكن نبوّته سترقى إلى درجة تنظيم اجتماعي عادل.. وستجمع كل القوى المتفرقة.. وستتم ثورة كبرى.. إلى حدّ جعل أمير اليمن بعزّته يقول للعبد يا أخي.. هذه هي أخلاق المساواة.. وهذا هو الجهد الذي صنع عظمة الإسلام ومرّغه السيد سيرفيي والمسيحية المتعصّبة في التراب، دون احترام لعقيدتنا وإيماننا، دون احترام للحقيقة التاريخية”.

ورغم أن فرحات عباس استعمل في مقاله العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ذات صلة بموضوع الدفاع عن الرسول الكريم والإسلام، إلا أنه اعترف أن الدفاع عنه يحتاج إلى معارف كبيرة لا نملكها، في إشارة إلى الحصار الذي تضربه فرنسا الاستعمارية على الثقافة الإسلامية والعربية، ويفضح فرحات عباس في مقاله هذا برنامج السيد “سيرفيي” السياسي في إدخال شمال إفريقيا في المسيحية، من خلال تصريحه: “القضاء على الإسلام لا يتّم بشكل صريح في وضح النهار، ولكن بعمل صغير يشبه عمل الأِرَضة، إذ لا يستطيع الأهالي أن ينتبهوا إليه، فإذا تهدّم مسجدٌ لا نقيمه، ولنشجع ونمول الآباء البيض، ولنخفِ بعناية عن المسلمين ماضيهم، ولنقل إن الحضارة العربية لم توجد أبدا”.

وفي الأخير يجدر بنا التنبيه إلى أن هذا المقال قد تم إعادة نشره في كتاب “الشاب الجزائري” سنة 1931 ضمن عدة مقالات أخرى، أي قبل ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقراءة مقالات فرحات عباس بروّية وتأنّي ربما سيكشف عن سر العلاقة القوية التي تربطه برجالات حركة الإصلاح منذ عهد رائد النهضة عبد الحميد بن باديس إلى نائبه البشير الإبراهيمي، وكيف أن جمعية العلماء لم تطعن في نيّة فرحات عباس عقب نشره المقال المثير للجدل “فرنسا هي أنا” الذي تنكَّر فيه لوجود الأمة الجزائرية، بل قام ابن باديس بتصحيح معلوماته ودفعه في نفس الوقت إلى الواجهة السياسية لأنَّ له مستقبلا واعدا يجب أن لا يُحطّم بسبب هذا المقال، وقد بيّنت مقالات فرحات عباس قبل ذلك العام أن عقله الباطن يؤمن أشد الإيمان بوجود الأمة الجزائرية حتى قبل الوجود الروماني الذي يتخذ منه الفرنسيون ذريعة كبرى لتبرير استعمارهم للجزائر.. وقد حوى هذا المقال من العبارات ما تؤكد ذلك عندما يقول: “وحينما يقول لنا بعض المتبجّحين الأوروبيين إن هذا روماني، وهذا لنا، ألا يحق لنا أن نردّ عليهم بأنه كان لنا قبل أن يكون لكم، بل قبل أن يكون لروما؟”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!