-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هكذا كانت حجتي

التهامي مجوري
  • 4064
  • 4
هكذا كانت حجتي

الحج عبادة، والكلام عن العبادات في العادة ينقص من فوائدها، لما في ذلك من رياء ورضى عن الذات.. ولكن استسمح الإخوة القراء بهذه المناسبة من أيام شهر ذي الحجة، في أن أسرد عليهم قصة حجي إلى بيت الله الحرام، لما لمست فيها من طاقة كامنة بداخل الإنسان تنتظر الإرادة الصادقة لتفجيرها في كل زمان ومكان، ولما فيها من كرم إلهي معروض لمن يطلبه، ذلك أن إرادة الإنسان الصادقة هي وحدها التي تلتقي مع الكرم الإلهي، والكرم الإلهي ليس لعبة يمكن أن يستفيد منها كل من هب ودب من الكسالى والغافلين والقاعدين… فنسأل الله النشاط والتنبيه من الغفلة.

ذات يوم من سنة 2012، كنت مع أخي الفاضل الدكتور عبد المجيد بيرم، وهو احد الدعاة المصلحين من أبناء الجزائر، أستاذ بجامعة العلوم الإسلامية بالخروبة في الجزائر العاصمة، نتجاذب أطراف الحديث حول الحج وما فيه من فضائل وكرامات وأسرار ومن عجائب التوفيق الإلهي…، فالأخ عبد المجيد قد فتح الله عليه بأكثر من حجة؛ بل في بعض الأحيان كانت تأتيه حجات متتاليات، فقلت له مازحا: يا سي عبد المجيد، دلنا على هذا الثقب الذي تحج من خلاله كل عام؟ فقال لي أو لم تحج؟ قلت بلى.. فقال لي: “اجعله مشكلة تنحل”… لا أدري كيف اختار الدكتور عبد المجيد هذه اللفظة؟ ولا لماذا اختار هذا الأسلوب في الجواب عن سؤالي؟ ولا أدري ما إذا قصد ذلك أم كان عفويا؟ ولكن ما أدريه حقا وصدقا أنني من جهتي تلقيت الجملة كالصدمة حيث شعرت في تلك اللحظة.. وكأن صفعة تلقيتها على وجهي من شخص لم أره… إي والله.. وكان رد الفعل المباشر بيني وبين نفسي، كيف لم أفكر يوما في الحج.. كيف لم أجعله مشكلة في حياتي..؛ بل كيف لم أشعر بمجرد الرغبة فيه..؟ وكل ذلك لماذا؟ هل هو زهد في العبادة؟ أم أن مجرد عدم القدرة وسقوط التكليف الشرعي يعفيني من الشوق إلى بيت الله الحرام، ويسقط عني وجوب التفكير فيه؟

المهم شعرت بنوع من الخزي الذي لم أشعر به من قبل…، كيف لم أفكر في الحج وأنا المثقف والحخب لدين الله تعالى والباحث عن رضوانه؟ إنها الغفلة نعوذ بالله منها ومن تبعاتها. 

ودخلت في دوامة اللوم والعتاب والبحث في الأسباب.. وجلد الذات والمحاسبة الطويلة وعرض كشف الحساب.. لا سيما أنا على مشارف الشيخوخة، إضافة إلى ما يقارب الأربعة عقود وأنا أعظ الناس وأحثهم على تعظيم شعائر الله والاهتمام بالعبادات التي تقربنا من الله وتبعدنا عن الشيطان وساحاته الفاسدة المفسدة.. هكذا رأيت نفسي وكأنني صغير جدا.

نعم صغير جدا في كل شيء، وإلا لماذا لم تحدثن نفسي بالحج ولا بالتفكير فيه ولا بالشوق إليه؟ صحيح أنه من الناحية الشرعية غير واجب في حقي، بسبب ما علي من ديون وواجبات اجتماعية، مع محدودية الدخل.. ولعل هذا هو الغشاء الذي غطى عن الحقيقة التي ينبغي الانتباه إليها.. ألا وهي الشوق إلى بيت الله الحرام…، ولكنها الغفلة نعوذ بالله منها ومن آثارها القاتلة، وإلا كان يمكن الاعتذار إلى الله بعدم القدرة ولكن الشوق يبقى والتعلق بهذه العبادة يبقى أيضا.

ومن ثم عزمت على الحج مهما كلفني الثمن، وعدت إلى البيت وأخبرت الزوجة بهذا الذي اعتبره انتباها من غفلة.. وقلت لها هذا العام سأحج إن شاء الله ولو بالدَّيْن.. فقالت لي مستغربة، وكيف؟ وأنت مثقل بالديون؟ وعليك الكثير من الواجبات؟ ولِمَ تكلف نفسك بما لم يفرضه الله عليك؟ فقلت لها وقلبي مشبع بتلك الشحنة الإيمانية التي ساعدها الدكتور عبد المجيد على ارتفاع مستواها: ألسنا نستدين من أجل الأكل والشرب وتعليم الأولاد ومن أجل السكن وفي سبيل كل حاجة مادية نريدها؟ قالت بلى، فقلت لها: لنستدين هذه المرة من اجل الحج إلى بيت الله الحرام، وإذا أردت أن تحجي معي فمرحبا وكما يقول مثلنا الشعبي “ومْنُينْ سُلْكِتْ السِّتَّة تَسْلَك السِّتِّينْ”.. فقالت لي أنا لا أحج بالدين، وإذا أراد الله لي أن أحج فهو عالم بحالي.

ورغم أن الموضوع من الناحية الشرعية لا يعنيني وهو ساقط عني بسبب عدم القدرة المادية ومن ثم فأنا غير مكلف شرعا، إلا أن الشوق الذي قذف في قلبي، زرع في نفسي حرصا جديدا لم أشعر به من قبل، إلا في لحظات عابرة، عندما نتابع مثلا مشهدا من مشاهد الحج في الطواف أو في عرفة أو في قوافل الحجيج قبل ذلك وبعد.

فانطلقت في البحث عن حجة بتكلفة بسيطة وبفيزا مجاملة؛ لأن فرصة القرعة قد فاتت وأنهيت في البلديات، ولا بد من البحث عن سبيل آخر….، وبينما أنا كذلك، إذ بأحد الأصدقاء يتصل بي من مكة ليزورني كالعادة ويسلم عليَّ، فاغتنمت الفرصة وأخبرته بالموضوع.. فقال لي أَوَ لم تحج؟ فقلت بلى.. فقال سنحاول تدبير الأمر. وما اكتشفته أثناء بحثي وتعجبت منه وصدمت به في هذه المساعي أن الكثير ممن حدثتهم لم يكونوا يعلمون أنني لم أحج ولم أعتمر.. وبعد أيام قليلة أتصل بي صديقي وطلب مني أن أرسل إليه نسخة من جواز السفر، لأكون واحدا من ضيوف رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وأشار علي بأن أحضر نفسي؛ لأنني ربما أكلف بنشاط ما هناك.. وبالفعل فقد ألقيت محاضرة هناك في مركز الرابطة في منى في الموسم الثقافي الذي تنظمه الرابطة كل عام.

وبينما أنا أحضر نفسي وأستعد لترتيبات الحج، إذ بصديق آخر مدين له بمبلغ من المال يتصل بي ليسدد بعض ما عليه من دين…، وشخص ثالث أيضا لم يعلم بالموضوع جاءني بجواز سفر وقال لي هذا “رزق” ساقه الله إليك… فأخذت الجواز وعدت إلى البيت وقلت للزوجة ها قد فتح الله بجواز حج، وما دمت قد رفضت الحج بالدين، ففكري معي في شخص يستحق هذا الجواز.. فقالت لي لا سأحج معك؛ لأن أخي “مبروك”، لما أخبرته بأنك ستحج مع الرابطة، قال لي ما دام هو سيحج مع الرابطة، قولي له يبحث لك عن جواز سفر حج وأنا أدفع لك الحجة، ولكن لما رأيتك متفاعل مع الموضوع لم أرد إفساد نشوتك وأثقل عليك بطلب قد يكون عسيرا عليك.. فسكتُّ وما دام قد جاء ويسره الله سأحج معك…، وبالفعل فقد كان الأمر بتسهيل وتوفيق من الله، إذ الزوجة حُضِّر جوازها –وانا غائب- في آخر يوم أغلق فيه شباك دائرة الدار البيضاء؛ بل إن الجواز حُضِّر خارج ساعات العمل بمساعدة وتفضل من رئيس المصلحة الذي لا نعرفه ولا يعرفنا، رغم أن العمال تركوه جميعا وانصرفوا… وكل ذلك بفضل وتسخير من الله…. فأعطاها أخوها مائتي ألف دينار. . وتوكلنا على الله وقضينا المناسك كلها مع بعضنا، فكان حجا أتمنى من الله أن يكون مبرورا؛ لأنني أشعر مذ ذلك اليوم وأنا على وضع غير الذي كنت عليه في أمور عدة؛ بل في منى حيث كانت إقامتي كنت أخلو بنفسي في أوقات الفراغ أفكر وأقرأ وأتدبر، وفي تلك البقعة ولد مشروع فكري هام اعتبره من ضرورات الأمة اليوم، ربما سأحدثكم عنه ذات سوم.

 سقت هذه القصة بهذه المناسبة من أيام ذي الحجة، لبعض قرائي الكرام من الذين توهموا في بعض ما أكتب شيئا من اليأس والتشاؤم، ليكتشفوا أن فهموه تشاؤما أو يأسا، ليس إلا وصفا لواقع الأمة المر الذي لا نريد له أن يستمر، يتطلب منا تحفيزات كبيرة للتغلب عليه، ومن التحفيز وصفه كما هو بعيدا عن اليأس والتيئيس، وكذلك بمعزل عما نريد ونتمنى؛ لأن اليأس كفر، وما نريد ونتمنى يحتاج إلى مضاعفة الجهود… وعطاء الله دائم للمجتهدين.  

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • elbahli

    حج مبرور وذنب مغفور وسعي مشكور تقبل لله منك أستاذ ،و من يتوكل على الله لا يخيب أبدا ،والله قصتك قريبة جدا جدا مني، بعد عقدين من العمل بالشركة لم يكتب لي الفوز بقرعة العمرة التي تهديها لجنة الخدمات الإجتماعية وفي كل مرة أمني نفسي بالعام القادم متحسرا ،حتى سخر الله صديق العمر بأن كلف نفسه وتمت إجراأت الحجز وفي وقت العطلة تمت بحمد الله من غير تحضيرات وإلى اليوم تمر علي الذكرى كأنها حلم .

  • جزائري

    حقيقة الغفلة والكسل و الروتين الذي نقظاه بين فطرة العمل وقظاء الحاجيات اليومية بين ماكل ومشرب ودواء وتمر الاعوام وكاننا خلقنا من اجل الاستهلاك وهذا ما يبتغيه اعداءنا ان نكون مستهلكين وفقط وهم المخترعون والسائحون في الارض يقول الله تعالى [ فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) .

  • الطيب

    حج مبرور و سعي مشكور و ذنب مغفور يا الحاج التهامي ، نويت نية و ربي حققها لك. حدثنا يا أستاذ مشكورًا في قادم الأيام عن المشروع الفكري الذي قلت أنه من ضروريات الأمة اليوم .

  • محمد

    و عيدكم مبارك لكم و لكل الشروقيين و المسلمين