الجزائر
الباحث جمال مسرحي في حوار شامل لـ"الشروق":

هكذا واجه بومدين الباءات الثلاث وعارض “إيفيان”

صالح سعودي
  • 30891
  • 76
أرشيف
الرئيس الراحل هواري بومدين

يتحدث الأستاذ الجامعي والمهتم بتاريخ الرئيس الراحل هواري بومدين، بأن شخصية هذا الأخير هي التي مكنته من فرض نفسه، وإبداء مواقف نضالية وطنية منذ البداية، والبداية في مظاهرات 8 ماي 1945 بقالمة، وصولا إلى مواصلته الدراسة في القاهرة، إضافة إلى كسبه ثقة القيادات الثورية، بتحقيق عدة انجازات وصفها محدثنا بالمهمة والنوعية، كما يسرد الباحث جمال مسرحي في هذا الحوار، مواقف بومدين الثورية، وكذا بعد الاستقلال، من ذلك تولي وزارة الدفاع، وملابسات الانقلاب على بن بلة، إضافة إلى سياسته الخارجية والداخلية، وصولا إلى وفاته في ظروف وصفها الأستاذ جمال مسرحي بالغامضة، ولو أنه لم يستبعد أن يكون قد حدث له نفس ما حدث للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.

بداية، ماذا تقول عن التنشئة الطفولية للرئيس الراحل هواري بومدين؟

من المتعارف عليه أن الاسم الحقيقي للرئيس الراحل هواري بومدين هو محمد بوخروبة، ولد في دوار بني عدي التابع إداريا لبلدية عين حساينية الواقعة غرب مدينة قالمة، بتاريخ 23 أوت 1932، من أبوين هما إبراهيم وتونس بوهزيلة، ويقال أن عائلته تعود أصولها إلى مدينة لعوانة بجيجل، درس الطفل محمد بوخروبة كبقية أترابه في منطقة قالمة ما تيسر له من كتاب الله في مسقط رأسه، وبعدها أرسله والده إلى مدينة قالمة للالتحاق بالمدرسة الفرنسية هناك، ربما من هذه الفترة بدأت قريحة الطفل محمد بوخروبة تتفتح وبدأ الوعي يتدفق إلى ذهنه من خلال معايشته عن قرب لنشاطات حزب الشعب في قالمة.

كيف ذلك؟

أحسن مثال هو مشاركته في مظاهرات 08 ماي 1945، لا سيما وأن قالمة كانت إحدى أهم نقاط تلك المظاهرات، وأهلها كانوا من أكبر ضحايا أحداث هذا التاريخ، بل أكثر من ذلك نجد أن الطفل بوخروبة محمد يصاب بجروح في كتفه اليسرى أثناء تلك المظاهرات، ما جعله يعيش قهر الاحتلال وممارساته القمعية وهو طفل صغير.

كيف تقيم مساره الدراسي؟

بعد إكماله الدراسة الابتدائية في قالمة، عاد إلى مسقط رأسه ليدرس القرآن للأطفال الصغار مدة قصيرة وبعدها أي في سنة 1948 شد الرحال إلى مدينة العلم والعلماء قسنطينة التي كان بها معهد الكتانية يشع بالثقافة العربية الإسلامية والفكر الباديسي الأصيل… وهناك في قسنطينة انخرط على غرار الطلبة في المعهد الكتاني في حركة الانتصار للحريات الديمقراطية التي تعتبر مدرسة الوطنية الجزائرية الحديثة بدون منازع، ودون شك كان الطالب بوخروبة محمد يحضر اجتماعات الحزب في شعبته، وهناك تعرف حسب بعض الشهادات على العديد من الطلبة والمناضلين في الحزب من أمثال علي كافي وصالح بوبنيدر وعبد اللاوي عبد القادر وغيرهم. وبعد مدة من دراسته في معهد الكتانية بقسطينة أدرك على ما يذكر صديقه وابن مدينته قالمة الأستاذ محمد الصالح شيروف أدرك أن طموحاته في العلم والمعرفة أكبر مما كان يتلقاه في قسنطينة.

ماذا تقول عن سفره إلى القاهرة؟

يروي الأستاذ شيروف أنه صارحه بأنه يريد السفر إلى القاهرة باعتبارها عاصمة العالم العربي والإسلامي في ذلك الوقت، وبها جامع الأزهر الشريف الذي كان حلم آلاف الجزائريين الطامحين للعلم والمعرفة في ذلك الوقت.. وقد وصل بوخروبة محمد رفقة صديقه شيروف إلى القاهرة يوم 15 فيفري 1952 وسجلا بعدها في الأزهر وبدأ في الدراسة بشكل عادي، وبعد اندلاع الثورة جاءت الفرصة من جديد للطفل الطموح المشبع بالأفكار التحريرية والوطنية للعودة إلى الوطن فاتصل بأحمد بن بله الذي كان يشغل مسؤولا على مكتب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذي تحول إلى جبهة التحرير الوطني بعد اندلاع الثورة وطلب منه الالتحاق بالثورة ولم يتردد بن بله في الموافقة على طلبه والتحق بإحدى المدارس الحربية بالقاهرة لتلقي التدريبات العسكرية الضرورية لمدة قصيرة..

كيف تعلق على مواقف وإنجازات بومدين خلال الثورة التحريرية؟

جاءت فرصة الشاب بوخروبة محمد للالتحاق بالثورة التحريرية عندما تمكن أحمد بن بله من إقناع الرئيس عبد الناصر بتوفير حمولة من السلاح لصالح الثورة الجزائرية، وتم إعداد عملية نقل الحمولة بطريقة استخباراتية محكمة، حيث تكفّل مدير المخابرات المصرية فتحي الذيب بإعداد الخطة والتي تقوم على استئجار يخت الأميرة الأردنية دينا عبد الحميد، وكان غرض الاستئجار القيام برحلة ترفيهية طبعا لغرض التمويه.. وبعد ضبط الأمور التحضيرية للرحلة، سافر أحمد بن بلة إلى اسبانيا ليخبر قادة المنطقة الغربية للبلاد بقرب وصول شحنة من الأسلحة وعليهم الاستعداد لاستقبالها… وبالفعل أبحرت السفينة اليخت -دينا- من ميناء الإسكندرية المصري وعلى متنها حمولة هامة من الأسلحة رفقة مجموعة من الشباب الجزائريين الذين سيلتحقون بالثورة وأوكلت لهم مهمة إيصال تلك الشحنة من الأسلحة للثورة، وكان ضمن أولئك الشبان محمد بوخروبة وكذا القبطان اليوغوسلافي ميلان باسيتش.

ما هي انعكاسات هذا الإنجاز على شخصية ومكانة بومدين؟

بعد مدة من الإبحار، تمت العملية بنجاح وتم إيصال الأسلحة للمنطقة الخامسة التي كان يقودها العربي بن مهيدي، ولما التقى بن مهيدي بهذا الشاب الوافد من القاهرة أعجب بشخصيته وتكوينه ونباهته وفضل أن يبقى إلى جانب قيادة المنطقة الخامسة، وهناك تعرف عن قرب بالعربي بن مهيدي والحاج بن عله وعبد الحفيظ بوالصوف، هذا الأخير الذي سيكون المكون الرئيسي والأب الروحي له… وهنا تم تغيير اسمه وربما يكون للعربي بن مهيدي وبوالصوف عبد الحفيظ دور في اختيار هواري بومدين للشاب الطموح محمد بوخروبه باعتبارهما يعرفان المنطقة الغربية للوطن والشاب بوخروبة جيدا، فعلى الأرجح أن يكونا وراء اختيار هذا الاسم الثوري للوافد الجديد لا سيما أن العربي بن مهيدي أمر نوابه بالعناية بهذا الشاب، ومعروف أن سيدي الهواري هو أحد الأولياء الصالحين في مدينة وهران، وسيدي بومدين هو أحد الأولياء المشهورين في تلمسان، فتم الجمع بين الوليين الصالحين ليكون الاسم الثوري لبومدين.. وكانت مهمته في بداية التحاقه بالثورة هي جلب الأسلحة من المغرب، وتدريب الملتحقين الجدد بالثورة على حمل السلاح ونصب الكمائن وحرب العصابات التي تعلمها في القاهرة.

كيف تقيّم وضعية بومدين الثورية بعد مؤتمر الصومام؟

بعد انعقاد مؤتمر الصومام والهيكلة الجديدة للثورة، نم تعيين العربي بن مهيدي عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ رفقة كل من: كريم بلقاسم وعبان رمضان وبن يوسف بن خده، ثم سعد دحلب، أصبح عبد الحفيظ بوالصوف قائدا للمنطقة الخامسة وهواري بومدين نائبا له، وحسب شهادات المجاهدين الذين أشرف على تدريبهم، فقد كان لبومدين دور أساسي في التخطيط والقيام بالعديد من العمليات العسكرية الناجحة التي كبدت العدو خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد… وفي 20 أوت 1957 عقد المجلس الوطني للثورة الجزائرية بالقاهرة دورته الثانية، وقرر رفع عدد أعضاء المجلس إلى 45 عضوا بدلا من 34 عضوا وعدد أعضاء لجنة التنسيق إلى 9 أعضاء بدلا من 6 وعلى إثر ذلك يصبح بومدين عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية بالإضافة إلى تعيينه قائدا للولاية الخامسة برتبة عقيد بعد أن أقر المجلس كذلك تعيين عبد الحفيظ بوالصوف عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ فخلفه على رأس الولاية الخامسة العقيد هواري بومدين وسنه لا يتجاوز 25 سنه، وربما يكون أصغر عقيد في الثورة التحريرية وأصغر قائد ولاية أيضا.

قيل الكثير عن إنجازات بومدين في الحدود الغربية، ما قولك؟

أنشأ العقيد هواري بومدين مركزا لقيادة العمليات العسكرية بمدينة وجدة على الحدود المغربية -الجزائرية.. ففي سنة 1958 أصبح العقيد بومدين قائدا لأركان جيش التحرير بالناحية الغربية للبلاد ليرتقي إلى قائد للأركان العامة لجيش التحرير الوطني في جانفي 1960 خلفا لكريم بلقاسم الذي عين وزيرا للتسليح في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وتؤكد الكثير من الشهادات منها الجنرال حسين بن معلم في مذكراته أن هيئة أركان الجيش لم تعرف تنظيما محكما إلا بعد تولي بومدين قيادته لها خلفا لكريم بلقاسم، ومن هنا يصبح العقيد هواري بومدين رقما مهما في الثورة التحريرية وربما لغزا لكثير ممن لا يعرفونه عن قرب نظرا للسرية التي تحوم حول شخصيته الصارمة وفقا لما تفرضه مهامه العسكرية ومسؤولياته التي تقلدها في تلك المرحلة، ويستمر في ذات المنصب إلى غاية الاستقلال.

قيل الكثير عن مؤتمر طرابلس، فما موقع بومدين فيه؟

بعد توقيع اتفاقيات إيفيان في 18 مارس 1962 بين الوفد الجزائري الذي قاده كريم بلقاسم والوفد الفرنسي الذي قاده لويس جوكس، والإعلان عن توقيف إطلاق النار يوم 19 مارس 1962، فقد كان لزاما على قادة الثورة الاجتماع لبحث جزائر ما بعد الاستقلال سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا.. ولأجل ذلك عقد مؤتمر في طرابلس الغرب في الفترة ما بين 27 ماي إلى 04 جوان 1962 جمع بين كل الفاعلين من القادة في الداخل والخارج وأعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي كان يقودها يوسف بن خدة زيادة على الزعماء الخمسة الذين اختطفت طائرتهم في 20 أكتوبر 1956 وأطلق سراحهم بعد وقف إطلاق النار.. وكان جدول الأعمال مكونا من ثلاث نقاط أساسية هي:
1- المصادقة على اتفاقيات إيفيان.
2- دراسة برنامج طرابلس في شقيه السياسي والعسكري ثم المصادقة عليه.
3- انتخاب المكتب السياسي الذي يسير الجزائر خلال مرحلة انتقالية يتم خلالها عقد مؤتمر وتنظيم انتخابات لاختيار الهيئات التي ستسير الدولة بصفة شرعية…

لكن المؤتمر عرف خلافات كثيرة، كيف تفسر ذلك؟

فعلا، هناك خلاف واضح بين القادة، فباستثناء هيئة الأركان بقيادة هواري بومدين الذي كانت له تحفظات أساسية حول اتفاقيات أيفيان، باقي الأطراف كانت مؤيدة لها، بينما كان موقف بومدين من البداية واضحا حول هو رفضه للاتفاقيات، وفي خضم الخلافات صرخ وقام بتقطيع نسخة من الاتفاقيات تلك في وجه كريم بلقاسم ووصف لمعارضيه من الباءات الثلاث والحكومة المؤقتة الممثلة في يوسف بن خدة هذه الاتفاقيات بالاستسلام وقال: نحن يفترض أننا وقعناها منتصرين، وأنا لا أخشى فرنسا، أستطيع بجيشي هذا (يقصد جيش التحرير الوطني) أن أفتح إفريقيا حتى رأس الرجاء الصالح… وأثناء انعقاد الجلسات يؤكد الكثير من الحاضرين أن البرنامج بما احتواه من اختيارات أساسية للجمهورية الجزائرية كاختيار النهج الاشتراكي كنظام سياسي واقتصادي للبلاد وتبني الحزب الواحد ورفض التعددية الحزبية بتغيير اسم جبهة التحرير الوطني إلى حزب جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي.. تمت المصادقة عليه بالإجماع ودون نقاش مما يؤكد شيئين اثنين:
1- جل قادة الثورة كانوا مع النهج الاشتراكي بما يفرضه من حزب واحد ومركزية في تسيير الدولة.. إلخ.
2- ما كان يسيطر على تفكير القادة ويشغل بالهم هو تشكيلة المكتب السياسي الذي ستوكل له قيادة المرحلة الانتقالية في الجزائر المستقلة. وأن الصراع كان من أجل الأشخاص لا المنهج أو المبادئ كما يراد تمرير ذلك فيما ما بعد من قبل المعارضين لبن بلة..
وما إن شرع في دراسة مسألة انتخاب المكتب السياسي حتى برز توجهان أو فريقان.

ما هما؟

أحدهما يقوده أحمد بلة ويقترح قائمة مكونه من: بن بلة، آيت أحمد، بوضياف، خيضر، بيطاط، محمدي السعيد، الحاج بن عله، أما الثاني فيقوده كريم بلقاسم ويقترح قائمة مكونه من القادة: السجناء الخمس المذكورين أعلاه بالإضافة إلى الباءات الثلاث: كريم بلقاسم وبوالصوف ولخضر بن طوبال مضافا إليهم سعد دحلب. ولما عرضت القائمتان على التصويت حازت قائمة بن بلة على 33 صوتا، أما قائمة كريم فعلى 31 صوتا.. بعد ذلك سادت الفوضى بسبب عدم الاتفاق على شرعية بعض الوكالات الخاصة بتصويت الأعضاء الغائبين.. فغادر الكثير من الحاضرين الاجتماع ويقال حتى جلساته لم ترفع إلى غاية الآن.

ماذا تقول عما اصطلح عليه بـ”جماعة تلمسان” و”جماعة وجدة”؟

بعد مؤتمر طرابلس تشكل ما يعرف بجماعة تلمسان بقيادة بن بلة وبومدين، وجماعة تيزي وزو بقيادة كريم وآيت أحمد.. فكانت مجموعة تلمسان مدعومة من قبل هيئة أركان الجيش والولايات: الأولى والخامسة والسادسة بالإضافة إلى العديد من الشخصيات الوطنية الفاعلة كفرحات عباس ورابح بيطاط ومحمد خيضر، فيما لم يتبق لمجموعة تلمسان سوى الولايات: الثانية والثالثة، في حين الولاية الرابعة بقيادة الخطيب نسبيا كان موقفها محايدا.

الباحث جمال مسرحي

كيف تم الدخول إلى العاصمة بعد اتضاح معالم القيادة؟

في 03 أوت 1962 أمر بن بلة باعتباره منتخب الجيش بدخول العاصمة فاصطدمت قوات الجيش الموالي لبن بلة بقيادة بومدين بجيش الولاية الثالثة التي كان يقودها محند أولحاج وجيش الولاية الرابعة بقيادة يوسف الخطيب.. وبعد مواجهات دامية تمكنت القوات التي يقودها بومدين وبن بلة من بسط سيطرتها على العاصمة يوم 13 أوت 1962. وتم تنصيب أحمد بن بله وفقا لما اتفق عليه في طرابلس وبدعم من العقيد هواري بومدين.. وهنا أرى أن الكثير يخطئ حين يتهم بومدين بدخول العاصمة بالجيش والسلاح وكأن الأمر انقلاب ونفس هؤلاء يبرئون جماعة كريم بلقاسم وبوضياف من التمرد على سلطة منتخبة من قبل الأغلبية في مؤتمر طرابلس، في الحقيقة بومدين تصرف كما يجب على مسؤول الجيش في أي دولة محترمة، فكان عليه حماية الشرعية في ظل صراع حول السلطة فما كان عليه إلا الوقوف إلى جانب السلطة المنتخبة في مؤتمر طرابلس وهو ما قام به من خلال دعم أحمد بن بلة، وتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة.

الكثير يتحفظ من مواقف هواري بومدين مع الولاية الأولى، ما رأيك؟

قبل الحديث عن بومدين وعلاقته بالولاية الأولى ينبغي التذكير بالمأساة التي عاشتها الولاية الأولى الأوراس النمامشة من جراء قرارات لقاء الصومام في 20 أوت 1955، أضف إلى ذلك الإعدامات التي طالت قيادات الأوراس في تونس من قبل لجنة التنسيق والتنفيذ بين سنتي 1957/1959، هنا تبدو علاقة بومدين بالأوراس على خلاف ما يشاع عليه، وأعتقد أن الأمر مقصود ممن يريدون تشويه صورة الرجل بالنظر إلى مكانة الأوراس في التاريخ الوطني، فهو المقرر لمصير الجزائر في كل الظروف، فعند تولي العقيد هواري بومدين قيادة أركان الجيش العامة وانتقاله إلى تونس رفض النطق بحكم الإعدام كما طلبه منه كريم بلقاسم وأوعمران على العقيد العموري..
وفي معرض إعادته هيكلة جيش التحرير الوطني بعدما خلف كريم بلقاسم اختار العقيد هواري بومدين إلى جانبه أقرب المقربين من القائد مصطفى بن بولعيد ورفيقه في سجن الكدية الطاهر زبيري، ورقاه إلى رتبه عقيد وعينه سنة 1960 على رأس الأوراس النمامشة، وبذلك حسب رأيي أراد بومدين أن يعيد الاعتبار للولاية الأولى، وفي ذات السياق أعاد الاعتبار لبعض القادة الذين عوقبوا مثل صالح قوجيل وغيره.. وفي صائفة 1962 استعان العقيد هواري بومدين بالولاية الأولى الأوراس النمامشة لزحفه على العاصمة لبسط الشرعية، حيث جاب مناطق سوق أهراس وتبسة وباتنة التي ألقى فيها خطابا هاما ولقي ترحابا منقطع النظير من قبل المواطنين… ولما تولى بومدين مقاليد الحكم على إثر التصحيح الثوري كان مجاهدو الولاية الأولى من أقرب المقربين له وعلى رأسهم العقيد محمد الصالح يحياوي وقائد الأركان العقيد الطاهر الزبيري… وعلى المنتقدين لبومدين من شباب الأوراس أن يتمعنوا جيدا في كون محاولة الانقلاب التي تعرض لها بومدين قادها الطاهر زبيري وهو قائد الولاية الأولى ومحاولة الاغتيال التي تعرض لها بعد ذلك تورط فيها عمار ملاح وهو أحد إطارات الأوراس ثم بورزان كذلك.
ورغم أن القانون واضح والحكم صدر ضد هؤلاء جميعهم بالإعدام إلا أن بومدين رفض أن يعدم أيا كان منهم، ولم يشهد له أنه كانت له ردود فعل انتقامية، بدليل الزيارات التي قام بها لكل ولايات الأوراس الجديدة وذكّر في خطبه ببطولات مجاهدي الأوراس وكان على سبيل المثال العقيد الحاج لخضر يحظى باحترام خاص من بومدين، يمكن أن أضيف أيضا قائد الولاية الأولى بالنيابة مصطفى بن النوي استقبله العقيد هواري بومدين في غار الدماء بتونس سنه 1960، وكان في ما بعد مبعوثه الشخصي إلى الرئيس الكوبي فيدال كاسترو الذي أرسل إلى بومدين مع بن النوي مسدسا كهدية شخصية منه لبومدين، وهو ما يذكره مصطفى بن النوي شخصيا، وهذا كله يدل على الاحترام والتقدير الذي يكنه بومدين للأوراس ورجال رغم أنه لم يسبق له أن تعرف إليهم من قرب مما يؤكد ثقته فيهم لا كما يشاع عبثا ضده..

وماذا عن علاقته بمنطقة القبائل؟

يحاول البعض أيضا أن يشوهوا صورة الرجل من خلال مواقفه حول الصراع على السلطة الذي كان بعض القادة المنحدرين من هذه المنطقة طرفا فيه، أمثال كريم بلقاسم وحسين آيت أحمد فعلينا أن نحكم على الأحداث من خلال الظروف التي حدث فيها والعناصر التي تحركها، فمن الغير الطبيعي أن يبقى وزير الدفاع مكتوف الأيدي في تمرد آيت أحمد بمنطقة القبائل في أوائل سنوات الاستقلال، وقضية الهوية أيضا التي يحاول البعض عبثا من خلالها الانتقام من الجزائر ومن بومدين لم تطرح على الإطلاق بالشكل الحالي، وهنا أؤكد وأقول إن الرئيس هواري بومدين هو أول من طرح فكرة البعد النوميدي في الهوية الوطنية أثناء طرح مناقشة الميثاق الوطني التي تضمنها الميثاق بعد صدوره، وهي الخطوة الأولى الصحيحة في تأكيد البعد النوميدي للهوية الوطنية، لأن الجزائر في أبعادها التاريخية هي نوميديا الموحدة من قبل الملك سيفاكس سنة 204 قبل الميلاد، وهو ما أشار إليه الميثاق الوطني الذي أقره الرئيس هواري بومدين.

هناك من لامه بعد لجوئه إلى التعريب على حساب الأمازيغية، ما رأيك؟

التعريب الذي أقره بومدين وعمل من أجله أعتقد أنه من السذاجة ربطه بتهميش اللغات المحلية في مختلف مناطق الجمهورية كالشاوية أو القبائلية أو غيرهما، لأن التعريب الذي سعى إليه بومدين هو تعريب العلوم، وقالها صراحة في إحدى خطبه: “لغتنا تصبح لغة قوية عندما تصبح لغة التخاطب في مركبات سكيكدة والحجار.. لأنه ليس لنا وقت للنحيب والبكاء…” في إشارة منه إلى ضرورة ركوب اللغة العربية قطار العلوم التكنولوجيا ولا تبقى لغة الأدب والشعر فقط…

اسم بومدين متداول بكثرة في قضية الاغتيالات السياسية، من ذلك خيضر وكريم بلقاسم، ما قولك في هذا الجانب؟

الكثير من الجزائريين يتهمون الرئيس بومدين باغتيال كل من محمد خيضر وكريم بلقاسم، الأول تم اغتياله في 04 جانفي 1967 بمدريد في اسبانيا بينما الثاني تم اغتياله في 18أكتوبر 1970 بفرانكفورت بألمانيا دون أدنى دليل ضده… فهذه الاغتيالات وغيرها تندرج ضمن الاغتيالات السياسية، وعلى المتهمين لبومدين أن يقدموا أدلتهم على ما يدعونه.. فمعارضة الرجلين لا تكفي لاتهامه.

لماذا في رأيك؟

بومدين له الكثير من المعارضين، وربما أخطر من كريم وخيضر، وفي أماكن أسهل للوصول إليهم، ورغم ذلك لم يتم اغتيالهم، ثم أنه من الضروري البحث في علاقات الرجلين وخلافاتهما سواء أثناء الثورة التحريرية أو بعدها، فكريم بلقاسم يؤكد الكثير من قادة الثورة أنه كان وراء اغتيال عبان رمضان، ثم أنه بعد استقراره في ألمانيا تم الاتصال به من قبل الموساد وعرضوا عليه المساعدة على إنشاء حركة ضد نظام الرئيس بومدين فرض دعم إسرائيل والموساد..
أما خيضر فالجميع يدرك أنه هرب بأموال صندوق التضامن الوطني التي كانت الدولة في أمس الحاجة إليها بعد الاستقلال وأن له خصوم سياسيين وغير سياسيين.. وأودع تلك الأموال في حساب باسمه في إحدى البنوك السويسرية وكان متنقلا بين سويسرا والمغرب وإسبانيا ثم فرنسا بعد أن انتقل إليها صهره حسين آيت أحمد بعد هروبه من السجن أو تهريبه (لا أستبعد هنا أن يكون الرئيس بومدين وراء هروب آيت أحمد أو بعلمه على الأقل حتى يتفادى له مصير محمد شعباني) فكان يتردد عليه في فرنسا ومن ثم فخصومهما كثيرون والمنتقمون يحومون دوما حول المعني بالقضية. فعلينا إذن البحث عن الفاعل بحق الرجلين في محيطهما والابتعاد عن بومدين لأنه لا دليل على الإطلاق يدينه…

كيف تصف سياسة بومدين الداخلية؟

بومدين كان رجل دولة وهو الوحيد من بين رؤساء الجزائر الذين كان لهم تصور لمجتمع جزائري واضح الأبعاد والمعالم، ومراسل جريدة لوموند: بول بالطا في كتاب صدر في بداية الثمانينيات من القرن الماضي عنوانه استراتيجيه بومدين La stratégie de Boumediene لخص فيه سياسة بومدين الداخلية في الثورات الثلاث: الثورة الزراعية والثورة الصناعية ثم الثورة الثقافية. أراد بومدين من خلال هذه الثورات الثلاث أن يصل بالجزائر إلى مصاف الدول المتقدمة بأقصى سرعة.. ويعيد للفلاح الجزائري كرامته من خلال تمليكه الأرض، أراد أن يجعل من الجزائر بلدا صناعيا من خلال تركيزه على المركبات والشركات الضخمة: الحجار سونيلاك سوناطراك سونيتاكس… إلخ، أراد أن يقضي على الأمية والتخلف والجهل بإقراره مجانية بل إجبارية التعليم.. وغيرها.

وماذا عن سياسة بومدين الخارجية؟

ربما كانت أولويته الأساسية هي إعطاء الأهمية للتعاون المغاربي والعربي، لكنه لم يجد المساندة التي كان يرجوها من قبل الجيران، أعتقد أنه كان يركز على مغرب الشعوب أكثر من مغرب الأنظمة ثم القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية ربما كانت بالنسبة إليه أم القضايا دون منازع فهو القائل: “فلسطين هي الإسمنت المسلح الذي يجمع الأمة العربية والإسلامية…”. وقد أثبت ذلك عمليا من خلال الدعم الذي قدمه باسم الجزائر لدول المواجهة في الحربين الإسرائيليتين العربيتين سنوات 1967 و1973، والزيارة الشهيرة التي قام بها إلى الاتحاد السوفييتي في نوفمبر 1973 حين أقنع السوفييت بضرورة تقديم الدعم للعرب وتقديمه لشيك بـ: 200 مليون دولار لهم مقابل الأسلحة التي سيبيعها السوفييت لمصر وسوريا.. وهنا أذكر ما قاله لبريجنيف الزعيم السوفييتي عندما رأى أن موقفه كان غير مبال باحتياجات العرب للسلاح السوفييتي بسبب عدم قدرة السوفييت على خسارة علاقاتهم مع الغرب في إطار ما عرف آنذاك بسياسة التعايش السلمي: “أعلم أنكم لا تريدون خسارة علاقاتكم مع الغرب بسبب العرب لكن إذا استمر موقفكم المتخاذل بهذا الشكل فتأكدوا أن الأمريكان سيدقون أبواب موسكو خلال عشر سنوات…”. وقد صنع الرئيس بومدين للجزائريين موقفا ثابتا وواضحا من القضية الفلسطينية لا تشوبه شائبة بمقولته الشهيرة والتي ستبقى خالدة إلى تحرير كامل الأراضي الفلسطينية: “نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”.

ما رأيك في موقفه بخصوص قضية الصحراء الغربية؟

موقف الجزائر كان ثابتا منذ استقلال الجزائر، فكانت رافضة للاحتلال الاسباني للأراضي الصحراوية، ثم بعد الاحتلال المغربي نجد الرئيس بومدين يقف ضد الإطماع التوسعية المغربية والموريتانية بدعم حركة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب تحت لواء جبهة البوليزاريو، والجميع يعلم موقف الجزائر الثابت من النزاع و القائم على الدعوة إلى ضرورة تقرير المصير للشعب الصحراوي..

وماذا عن سياسيته بخصوص العالم الثالث؟

تتلخص من خلال آلياته، وعلى رأسها حركة عدم الانحياز ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومؤتمر الجزائر لحركة عدم الانحياز المنعقد في 5 و8 سبتمبر 1973 هو قمة براعة الرجل في إدراكه لأهمية التعاون جنوب-جنوب من أجل القضايا التي تهم العالم الثالث.. وانعقاد المؤتمر في الجزائر سمح لبومدين بأن تبرز قوة شخصية و مكانته بين قادة العالم فبدى زعيما للعالم الثالث من خلال الأفكار التحريرية التي طرحها، حيث نقل حركة عدم الانحياز نقلة نوعية من مطالب سياسية إلى مطالب اقتصادية ولأول مرة في تاريخ الحركة، حيث طالب مؤتمر الجزائر بوضوح بضرورة إعادة النظر في آلية التعاون بين الشمال والجنوب، وذلك من خلال مطالبته بضرورة إنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد يأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول الضعيفة.. وليطرح الفكرة بشكل واضح للعالم قامت الجزائر بالدعوة إلى جمعية عامة للأمم المتحدة وقد انعقدت في أفريل 1974، وهناك ألقى بومدين خطابه الشهير في 22 أفريل 1974 وأعاد فيه طرح الأفكار الاقتصادية التي طرحت في مؤتمر الجزائر وعلى رأسها ضرورة إنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد يأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول القوية والضعيفة، وضرورة مراقبة نشاط الشركات المتعددة الجنسيات… وشرع في تلك السياسة من خلال سلسلة التأميمات، كتأميم البنوك في 1966 والمناجم والقواعد العسكرية سواء في رقان أو قاعدة المرسى الكبير في 1967، ثم تأميم المحروقات في 24 فبراير 1971، هذه السياسة كانت تزعج الغرب لا سيما الدوائر الرأسمالية بدون أدنى شك.

كيف تعلق على ظروف وأسباب وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين؟

حسب المؤشرات وتسلسل الأحداث سواء المتعلقة بفترة مرضه أو مساره السياسي كرئيس بشكل عام توحي بأن وفاته لم تكن أبدا طبيعية، لكن في المدة الأخيرة ظهرت بعض التسريبات من المسؤولين في الاتحاد السوفييتي السابق تؤكد فرضية الاغتيال، ولمعرفة المتورطين في التخلص من بومدين علينا أن نبحث في طبيعة المستفيدين من غياب بومدين على الساحة العربية والدولية..

من هم في رأيك؟

دون شك هم الصهاينة، بالنظر إلى الالتزام الذي قطعه بومدين مع القضية الفلسطينية، ووقوفه ضد التطبيع ومعارضته لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ومساهمته في إنشاء جبهة الصمود والتصدي، ومحاصرته للشركات الرأسمالية الاحتكارية من خلال التأميمات في الجزائر، ودعم لسياسة التأميم في بلدان العالم الثالث، ما يجعله مستهدفا من قبل الدوائر الرأسمالية والقوى الرجعية التوسعية في المنطقة، وعندما تلتقي كل هذه القوى عند هدف واحد فمن الطبيعي جدا أن تتحالف وتجد الطريقة المناسبة التي تمكنها من القضاء على بومدين أو غيره وهو ما حدث. بدليل أنه حسب بعض التقارير الصحفية فإن سبب وفاته هو مرض “فالدنشتروم” الذي سببه له ربما سم غريب التركيبة، ولا يستبعد أن يكون مصدره تل أبيب، وقد تدعم ذلك بتشابه الطريقة التي توفي بها بومدين مع الطريقة التي تم بها اغتيال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رحمهما الله.

مقالات ذات صلة