-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هلّا خجلتم أيّها المطبّعون؟

بقلم: فريد حاجي
  • 652
  • 0
هلّا خجلتم أيّها المطبّعون؟

إنّ مما يصيب الأمم في مقتل ويُدخلها في حالة غيبوبة، هو الجهل بالتاريخ أو تجاوزه. لذا، نجد الصهاينة أولوا أيّما اهتمام للتاريخ، تاريخ صُنِع من عدم، وكان له الدّور الأساس في توطيد أسس كيانهم على أرض فلسطين، واستطاعوا غرس اسم “إسرائيل” بدل “فلسطين” للتعبير عن الدولة القوميّة الحديثة ولصنع هويتهم، من خلال قول “ﺣﺎﻳﻴﻢ واﻳﺰﻣﻦ” “…نحن لسنا قادمين ولكنّنا عائدون”.

إنّ التاريخ عند الصهاينة –وغيرهم من الأمم- حيّ يُرزق يطلّ برأسه في كلّ أزمة، يستنطقونه ويستمدّون منه العبر، ويذكّرون به العدوّ والصديق؛ فعندما حصل سوء تفاهم بين الكيان وفرنسا الديغولية، ذكّر “بن غوريون” الجنرال “دوغول” بتاريخ الشعب اليهودي في رسالة مطوّلة بتاريخ 06 ديسمبر 1967م من بين ما جاء فيها: “… لقد سُحق استقلالُنا في وطننا مرّتين، ودُمّرت القدس بل وسُويّت بالأرض على أيدي الرّومان المنتصرين، ومُحي اسمها مؤقّتا. ولكن أجدادنا الذين نُقلوا إلى بابل قبل 2500 سنة، جلسوا على ضفاف أنهار بابل وبكوا وتذكّروا صهيون، وأقسموا قَسَمًا مازال محفوظا بيننا حتى يومنا هذا: “إن نسيتك يا أورشليم، تنسى يميني؛ وليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، وإن لم أفضّل أورشليم على أعظم فرحي “… وأنا لا أعرف أيّ شعب آخر خلاف اليهود، نُفي من أرضه وعاش في شتات بين دول العالم ضحيّة للكراهيّة والاضطهاد والطرد والمذابح… ولم تمح تلك الأحداث من ذاكرتنا ولا من ذاكرة التاريخ، بيد أنّها لم تصب شعبنا باليأس… كل يهودي يشتاق باستمرار للعودة إلى أرضه… وأنا على دراية بعدم وجود مثال في التاريخ على عودة شعب إلى وطنه بعد مرور1800 عام على خروجه منه… وقد اعترف العالم المسيحي بأكمله، مثلما اعترفت عصبة الأمم التي كانت تتألّف بأكملها تقريبا من دول مسيحيّة من خلال إقرار وعد بلفور؛ بأنّ هذه العودة تشكّل الرّابط التاريخي بين شعب إسرائيل وأرض إسرائيل… وكان الهدف من هجرة اليهود إلى فلسطين واستيطانهم فيها، هو إحياء الاستقلال اليهودي في أرض إسرائيل، وكانت الخطوة الأولى نحو إقامة الدّولة اليهوديّة في عصرنا الحالي هي تأسيس مدرسة “مكفي يسرائيل” العام 1870م”. ذلك ما يتمّ تدريسه لأبنائهم من المرحلة الابتدائية إلى الجامعة.

وخلافا لذلك، تتناسى معظمُ النخب الحاكمة ومن يسبح في فلكها من مثقّفين، أنّ أمّة لا تهتمّ بالتاريخ لا هُويّة لها، وما تنفكّ أن تكون إِمَّعة عَالةً على غيرها فاتحة فاها انبهارا بالآخر، والتاريخ عندها أشبه بجسد بلا روح، وكأنّهم لقطاء تاريخ وأيتام حضارة. هؤلاء يبخسون تاريخهم لا لشيء سوى أنّهم اكتنزوا في لا وعيهم أيديولوجيا تفوّق الآخر، ولم يعد لهم من همّ سوى وسم بني جلدتهم، بغير العقلانيّين، والعاطفيّين، والمتعصّبين، والمشوّهين نفسيًّا. هذا التوصيف هو رجع صدى لصورة نمطيّة رسمها عدوّهم بالأمس في مخياله تجاههم. هذا التماهي ينمّ عن شعور بالدّونية تجاه الآخر، شعور تكلّم عنه “ألبير ميمي” في كتابه “صورة المستَعْمِر وصورة المستَعمَر” العام 1957م.

ومن ثمّ، أنّى لمن يختان تاريخه ويضرب عنه صفحا أن يستفيد من ماضيه، وأن يتفادى تكرار خيباته، أمام عدوّ، لا ثقة في وعوده وتعهّداته، منافق ومخادع، ولا يسمع لصوت مظلوم؟ لذا، لا عجب إن رأينا أمام مشهد اليوم، وهو الأقسى والأكثر وَجَعا، يتخلّون عن الفلسطينيين، والعمل على خديعتهم، واستدراجهم إلى اتفاقيات مخزية، يضيع معها الوطن والحقوق، وكأنّ هؤلاء باتوا بيد الكيان سيفا يقتل، وخنجرا يطعن.

وإذا كان من البديهي، أنّ بعض الأحداث التاريخية التي مرّت بها الأمّة قد تؤثّر تأثيرا مباشرا أو غير مباشر في واقعها، إن حاضرا أو مستقبلا، بل وقد تؤثّر في روح الأمّة وتفكيرها، ومن ثمّ، على مبادئها وقيمها العامّة، فإنّه في المقابل، قد تقوّي تلك الأحداث من دعائمها وتؤكّد وجودها واستمراريتها، إن تمّ تفهّم دواعيها وسياقها التاريخي، وذلك قمينٌ بذوي الحسّ التاريخي.

هذا الحسّ التاريخي، تجلّى في رسالة طوفان الأقصى، رسالة موجّهة لأولئك الذين يعملون على اعتقال تاريخ الأمّة وإسكات صوته، رسالة مفادها، أنّكم لن تستطيعوا الدّوس على التاريخ، فهو الانتماء والهويّة والمصير والكينونة، حتى وإن شابه انكسارات يبقى سندا ودرسا وعبرة لتجنّب أسبابها، أمام ما يحاك للعالم العربي عموما، ولفلسطين بخاصّة منذ نكبة 1967م، مخطّطات لتصفيّة القضيّة، ومساعي نحو استنساخ سايكس/ بيكو جديدة؛ وهو مخطّط مطروح بقوّة لإعادة تقسيم الوطن العربي إلى دويلات، على أساس الانتماء الطائفي، مسيحي، شيعي، علويّ، سنّي، وكردي. وبالنتيجة، اتّخاذ الكيان صفة طائفيّة شرعيّة، هي “الدولة اليهودية”. وبالتالي، فالأعداء قالوا كلمتهم، التفريق باستغلال الواقع الأليم؛ فجاء الطوفان ليكون سدّا منيعا ضدّ مخططاتهم تجاه فلسطين.

كان طوفان الأقصى معتبرا من التاريخ، ومُدركا لأساليب الأعداء تجاه العرب والمسلمين، إذ وظّفوا في ما يسمّى سايكس/ بيكو للعام 1916م النزعة العرقيّة والقوميّة لدى العرب َفراحوا يوالون بريطانيا وفرنسا وهم من المستعمِرين ضدّ الدولة العثمانية، وكانت نتيجتها كما هو معروف تفكيك بلاد الشّام. كذلك، فإنّ المُطّلع على التاريخ القريب جدّا، يكون قد وقف على مختلف أساليب الأعداء لتحقيق مشروع التفتيت، مثل الذي يعملون على تحقيقه اليوم في البلدان العربيّة، ومن بين هذه الأساليب ما نبّه إليه “المهاتما غاندي” حين قال: “… كلّما قام شعب الهند بالاتّحاد ضدّ الاستعمار الإنجليزي، يقوم بذبح بقرة ورميها بالطريق بين الهندوس والمسلمين لكي ينشغلوا بالصّراع بينهم ويتركوا الاستعمار”. ومنها قول “إدوارد وود” (1881-1959م) وزير خارجية بريطانيا إلى الحاكم العام للهند: “… لقد حافظنا على سلطتنا على الهند بتأليب طرف على آخر وينبغي أن نستمرّ في القيام بذلك، ومن ثمّ يتعيّن أن تفعل كلّ ما في وسعك للحيلولة دون أن يتبنّى الجميع مشاعر مشتركة”. ومنها ما قاله السير “جون ستراتش” (1901-1963م): “… وجود العقائد المتعادية من نقاط القوّة في وضعنا السياسي، والصراعات المريرة لأتباع محمد (ص) هي بالفعل مصدر قوّة لنا”. كما أوضح رئيس أمريكا “نيكسون” (1969-1974م) في كتابه “نصر بلا حرب” العام 1991م كيفيّة تغذيّة الصّراعات الدينية والطائفية في الدول العربية؛ ولتقاتل بعضُ الشعوب بعضها الآخر.

إنّ تفسير ذلك نستشفّه من تصريح لــ”كيسنجر” عقب أحداث 11/09/2001م، إذ قال: “… إنّ الصّراع التالي سيكون بين المسلمين أنفسهم” بمعنى، أنّ مخطّطا يُحاك ضدّ المنطقة العربيّة، وقد سبق له وأن نصح الكيان الصهيوني بعد حرب 1973م مباشرة: “… تجنّب فكرة التسويّة الشّاملة، والتّظاهر بصُنع السّلام من خلال خطوات صغيرة، حتى يتكيّف العربُ مع الوقت، ويضطرّهم اليأسُ، جنبا إلى جنب مع صراعاتهم البينيّة، إلى الاستسلام لحقائق القوّة في منطقتهم”.

كذلك، من يتصفّح التاريخ سيقف على إرهاصات الوصول إلى واقع العالم العربي اليوم، إذ استشرف “والت وايتمان روستو” (1916-2003م) مستشار الرئيس الأمريكي “لندون جونسون” للأمن القومي حين قال العام 1967م: “… إنّ شرق أوسط جديدا سيسود، وإنّ الاعتدال وقبول وجود إسرائيل سيكون من سماته”. وفي رسالة من “لندون جونسون” إلى الملك فيصل جاء فيها: “… لقد صادفنا صعوبة أكثر في تقييم قرارات مؤتمر الخرطوم بشأن تسوية النزاع العربي/ الإسرائيلي؛ فقد ذكر البيان الختامي للمؤتمر ما لن يفعله العرب (إشارة إلى اللّاءات الثلاث) ولكنّه التزم الصمت –إلا مواربة- إزاء ما قد يكون العرب على استعداد للقيام به. ونحن نرحّب أيّما ترحيب بالقرار العربي… طرح الحلّ العسكري جانبا، ولكن عدم وجود أيّ بيان بشأن قضيّة شنّ الأعمال العدائية -رغم كونها قضية رئيسة- يضع عقبة كأداء في طريق التوصّل إلى تسوية للأزمة… وأعتقد أننا بحاجة لتسويّة أكثر ديمومة واستقرارا، تلتزم بها جميع حكومات المنطقة بطريقة ما. ومن شأن هذه النتيجة وحدها ومن دون سواها، ضمان السّلام والتقدّم في المنطقة التي ينبغي لكلّ من العرب والإسرائيليين العيشُ فيها سويّا”. ورغم ما قدّمه العرب من تنازلات منذ ذلك الحين، فإنّ كلام “بايدن” اليوم هو نسخة مكرّرة لكلام “جونسون”.

 إنّ تفسير ذلك نستشفّه من تصريح لــ”كيسنجر” عقب أحداث 11/09/2001م، إذ قال: “… إنّ الصّراع التالي سيكون بين المسلمين أنفسهم” بمعنى، أنّ مخطّطا يُحاك ضدّ المنطقة العربيّة، وقد سبق له وأن نصح الكيان الصهيوني بعد حرب 1973م مباشرة: “… تجنّب فكرة التسويّة الشّاملة، والتّظاهر بصُنع السّلام من خلال خطوات صغيرة، حتى يتكيّف العربُ مع الوقت، ويضطرّهم اليأسُ، جنبا إلى جنب مع صراعاتهم البينيّة، إلى الاستسلام لحقائق القوّة في منطقتهم”. ذلك ما حرصت أمريكا والكيان –ويستمرّان في ذلك– على توسيع وتعقيد تلك الصراعات البينيّة، وفي القمم العربيّة فصلُ الخطاب.

ذلك ما كان يستشعره “طوفان الأقصى”، فجاءت عملية 07/10/2023 -بعد الاستعداد لها طويلا- لتتحدّى الجبروت الأمريكي، وتُسقط غرور الصهاينة وصَلَفَهم، وخلخلة الأسطورة التي خلقوها حول أنفسهم مثل حليفتهم ألمانيا في بداية الحرب العالمية الثانية. وقد بكى الناطق الرسمي للبيت الأبيض أمام عدسات التلفزيون حزنا على الضحايا الصهاينة، ولكن لم يبك أيُّ مسؤول أمريكي على موت أطفال فلسطين منذ 75 عاما من الظلم. ولا أعتقد أنّ المطبّعين ذرفوا دمعة. وإذا كان “أبا إيبان” الباني والمخطِّط للكيان يفتخر بافتقاره إلى المثالية والأخلاق، فماذا تتوقّع النخب الحاكمة من المجرم “نتنياهو”؟. ربّما تكون هذه النخب الحاكمة، إمّا قد أساءت فهم كلّ هذه الرسائل، أو هي متماهية مع ذلك المسار لحاجة في نفس يعقوب.

أخيرا، هل يستفيق المطبّعون من غيبوبتهم، أمام صراعات طائفيّة وعنصريّة، أم أنّ جهودهم ستبقى منصبّة على استنزاف بني جلدتهم، والتملّق لأمريكا واستجدائها؟ لقد أتاح لها طوفان الأقصى فرصة استعادة وعيها. لكن، صدق حليفهم الصهيوني “آبا إيبان” (1915-2002م) وزير خارجية الكيان الصهيوني سابقا، حين قال: “… العرب لا يفوّتون فرصة لتفويت فرصة”، وذلك مصير من يتجاهل التاريخ.

للمقال مراجع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!