-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل أصبحت “الغيرة” مَسبَّة؟!

سلطان بركاني
  • 563
  • 0
هل أصبحت “الغيرة” مَسبَّة؟!

من الأحاديث النبويّة الشّريفة التي يحسن بنا أن نعود للوقوف عند كلماتها من حين إلى آخر: قول النبيّ المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلّم-: “اقتربت السّاعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا، ولا يزدادون من الله إلا بعدا”؛ فمع اقتراب السّاعة يُفترض في كل عبد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكون حريصا على إخراج الدّنيا من قلبه، مُهتما أكثر بالاحتماء بمولاه.. ولكنّ القلب عندما يمرض، يصبح نهما في طلب الدّنيا، غير عابئ بقربٍ أو بُعد من خالقه. يرى صاحبُه موت الأقارب والأصدقاء والخلان ويعاين المقابر ويُبتلى بالأمراض والأسقام، ولا يزداد إلا حرصا على الدّنيا.

ليس حراما ولا نقصا أن يطلب العبد التزوّد من الدّنيا لأجل أن يستغني عن النّاس ويقيم دينه ودنياه، ما دام ما يطلبه حلالا يحلّ في اليد ولا يصل إلى القلب، لكنّ المرغوب متى ما حلّ في القلب وتربّع عليه أصبح العبد لا تُشبعه أموال الدّنيا ولو اجتمعت بين يديه؛ كلّما نال حظّا منها تطلّعت نفسه إلى حظّ آخر. تصبح حاله كما وصف النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب”.

ونحن إذا ما عدنا إلى واقعنا بعين البصيرة، نٌعاين كيف أنّنا -إلا من رحم الله منّا- نشكو بالليل والنهار: “آو مالحقناش”. وكلمة “مالحقناش” هذه تختصر حالنا وواقعنا، وكيف أنّنا نلهث خلف الدّنيا وهي تهرب منّا، لا يهدأ لنا فيها بال ولا يجتمع لنا فيها شمل ولا نهنأ فيها بعيش.. نتنافس ونتحاسد ونتباغض ونتباعد لأجلها، حتّى ما عاد الواحد منّا يكلّم أخاه ولا جاره بسبب الدّنيا الفانية.. ما عاد يكفينا ولا يملأ عيوننا شيء منها. مع كل نعمة وكلّ حظّ نقول: ((هل من مزيد)).. في البيت الواحد: ثلاثة رواتب أو أكثر، ومع ذلك لا تسمع إلا من يقول: “ما لحقناش”! وبدلا من أن نبحث عن أسباب ذهاب البركة، رُحنا نبحث عن زيادة المداخيل، حتّى انشغلنا بالدنيا عن عبادة الله وعن صلة أرحامنا وعن الاستعداد للموت والآخرة. ويا ليتنا نبحث عن زيادة المداخيل بما يحفظ ديننا وآخرتنا، ولكنّنا أصبحنا نزيد دنيانا بتمزيق ديننا، بل وإهدار راحتنا وسعادتنا. تماما كما قال القائل: نُرَقِّعُ دُنيانا بِتَمزيقِ دينِنا؛ فَلاَ دينُنا يَبقَى ولا ما نُرَقِّع!

تجد الشاب يعمل في منصب محترم ينال منه راتبا محترما، ومع ذلك، إذا أراد الزّواج لا تسمعه إلا وهو يقول: ” لا بدّ وأن أتزوّجها موظّفة، لنتعاون على الدّنيا”! حتّى إذا هو اختار أن يتزوّج امرأة ماكثة في البيت، أتاه النّاصحون من كلّ حدب وصوب، كلّ يقول له: “ما الذي دهاك؟! الواقع أصبح صعبا، وأنت تبحث عن امرأة عاطلة عن العمل (!). تزوّجها عاملة، لتتعاونا على الزّمان”.. يبحث عن امرأة موظّفة، وياليتها تكون موظّفة وصاحبة خلق ودين، ولكنّها -في كثير من الأحيان- لا تعرف من الحياة إلا المظاهر والتقليد الأعمى ولا تحمل في رأسها غير مبدأ “أريد أن أعيش حياتي”! يتزوّج الشابّ موظّفة دنيوية، فما يلبث أن تشترط عليه ألا يتطلّع إلى شيء من راتبها الذي تنفقه في المظاهر وفي تقليد النساء من حولها. فما يمكثان عاما بعد الزّواج حتى تنشب المشاكل ويرتفع الصراخ: هو يتكلم وهي تردّ، هو يصرخ وهي تحتدّ، هو يهدّد وهي تتوعّد.. وفي الأخير تجرّه إلى المحكمة لتخلعه عن رقبتها، بعد أن تفسد ما بينه وبين إخوته وبين والديه وحتّى جيرانه.. كلّ هذا لأنّ النية لم تكن بناء أسرة مسلمة ولا تربية أبناء صالحين، لم تكن النية “نتعاون على إصلاح الآخرة ودخول الجنّة”، إنّما كانت: “نتعاون على الدّنيا”، فضاعت الدّنيا وضاع الدّين. قال الإمامُ الشافعي -رحمه الله-: “سمعتُ بعض أصحابنا ممن أثق به قال: تزوجتُ لأصونَ ديني؛ فذهب ديني ودين أمي ودين جيراني”.

تجد الرّجل مستورا براتبه أو أرباح تجارته، فيأتيه من يأتيه ليشير عليه بإخراج زوجته للعمل، ويضرب له أمثلة بزوجة فلان وزوجة علان، فيصبح ويمسي وهو يقول: “لا بدّ لزوجتي أن تخرج للعمل. العيش أصبح مرهقا. حتى ولو كان راتبها مليوني سنتيم فهو خير من قعودها عاطلة”! يُخرج زوجته للعمل، فما تلبث أن تتعرّض للإحراج والفتن في الطّريق وفي مكان عملها، وتبدأ في الانفتاح على عالم الرّجال: تكلّمهم عن طعامها المفضّل، وعن المسلسل الذي تتابعه، وتحدّثهم عن مشاكلها مع زوجها، وشيئا فشيئا حتى تسقط كلّ الحواجز بينها وبين الرّجال الذين تخالطهم؛ هذا صديقها في العمل، والآخر هو مديرها، أمّا الثالث فهو صاحب السيارة الذي كثيرا يوصلها إلى العمل أو يعود بها إلى البيت. هذا يخاطبها كلّ صباح: “صباح الخير يا مدام”، وذاك لا يجد حرجا في أن يقول لها: “اليوم راكي حطّة”.. فجأة يجدها زوجها تحتفظ بأرقام فلان وعلان في الهاتف، وربّما يجدها تكلّم هذا وذاك في الماسينجر بحجّة أنّهم زملاؤها وأنّها تكلّمهم في شؤون العمل! فإذا ما تحدّث معها قالت له: وأنت أيضا تكلّم النّساء.. ومع هذه البلية التي يفترض أن تحمله على مراجعة نفسه، إلا أنّه لا يكتفي بإخراج زوجته، حتّى يخرج بناته للعمل؛ فتصبح المأساة الواحدة مآس كثيرة، وتنفلت الأمور من يده، وبدلا من أن يرجع خطوة إلى الوراء، إذ به يزيد خطوات إلى الأمام، فيألف الوضع، ويلزم الصّمت بعد أن يُرخي أذنيه ويكسر طرفه، ويرضى بالدنية في عرضه، وتموت الغيرة في قلبه!

حتّى بعض الرّجال الذين لم يجدوا عملا لزوجاتهم وبناتهم، أصبحت الغيرة على العرض لا تعني بالنسبة إليهم شيئا.. بل أضحت بالنسبة إليهم شيئا من الماضي.. زوجته من سوق إلى آخر، ومن محلّ إلى محلّ، لا تغيب عن الأسواق والمحلات أبدا! تخرج كلّ يوم، بحاجة ومن دون حاجة، تزاحم الرّجال ويخالط نفَسها أنفاسهم، تناقشهم في الأسعار وتخضع لهم بالقول وتبتسم لهم وتريهم أسنانها لينقصوا لها من الثّمن، حتى إذا عادت إلى زوجها في المساء وقالت: هذه اشتريتها بكذا وهذه بكذا. قال لها: “أنت حاذقة وتحسنين الشّراء خيرا منّي”!

يُروى عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه لما رأى الرِّجال والنساء يتزاحمون في الأسواق، خطب في النّاس قائلا: “ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ فإنه بلغني أن نساءَكم يزاحِمْن العلوج -أي: الأجانب- في الأسواق”.. فماذا لو رأى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- زماننا، ماذا كان قائلا؟! زماننا هذا الذي قلّ فيه الدّين وغابت الرّجولة وماتت الغيرة، وأصبحت في منظور بعض النّاس عيبا. حتّى أصبحت النّساء يعاير بعضهنّ بعضا بالآباء والأزواج الغيورين! فتقول الواحدة منهنّ لصاحبتها: “زوجي رجل منفتح ليس غيورا، على عكس فلانة المغبونة التي سوّد لها زوجها حياتها بغيرته”! أو تقول البنت لصاحبتها: “صديقتنا فلانة مغبونة لا تعيش حياتها، لأنّ أباها غيور متخلّف”!

تجد الرّجل لا يقبل أن يشاركه أخوه في المنزل، مع أنّه منزل عائليّ، ولكنّه يقبل أن يشاركه الرّجال في رؤية ضحكة زوجته، وفي سماع كلامها المائل، وفي معرفة بعض خصوصياتها.. والله إنّ الموت لأهون للرّجل من أن يشاركه الرّجال في زوجته. كان الرّجل في الجاهلية يموت ولا يقترب رجل آخر من عرضه. فما الذي دهانا في هذا الزّمان حتّى رضي كثير منّا بالدنية في أعراضهم؟! هناك من عباد الله من يصلّون في المساجد ويصومون ويتحدّثون في الدّين، لكنّهم لا يغارون على زوجاتهم ولا على بناتهم. وهذا مصداق ما أخبر عنه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حينما قال: “سيكون في آخر أمّتي رجال يركبون على السّروج (السيارات في زماننا) كأشباه الرّجال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهنّ كأسنمة البخت العجاف، العنوهنّ فإنهنّ ملعونات، لو كانت وراءكم أمّة من الأمم لخدمت نساؤكم نساءَهم كما تخدمكم نساء الأمم قبلكم”.

ليس كلّ الرّجال على ما ذكرنا، وليست كلّ النّساء العاملات على ما وصفنا، فبيننا رجال لا يرضون الدنية في أعراضهم، وبيننا زوجات صالحات يخرجن للعمل بحيائهنّ وعفّتهنّ، لا يطمع مرضى النّفوس منهنّ بميل أو خضوع أو عبث أو كلام زائد عمّا تقتضيه الحاجة.. لكنّ دائرة الصّلاح في انحسار لصالح دائرة الفساد التي توسّعها المسلسلات والدّعوات الآثمة التي ينفق العلمانيون الأموال الطائلة لأجل الترويج لها في مجتمعاتنا المسلمة… وللحديث بقية بإذن الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!