الرأي

هل فهمتم الآن لماذا يحاربون الرقمنة؟

عبد الحميد عثماني
  • 13093
  • 10

ما كشفت عنه وزارة التعليم العالي، مؤخرا، من أرقام أوليّة جد محفزة بخصوص ثمرات الانتقال في إدارة الخدمات الجامعية من الورقي إلى الرقمي، يستحق وقفة تقييم وتساؤل أيضا، لفهم كل مسارات المقاومة التي تستميت فيها أطراف منتفعة من الفوضى البائدة والإدارة البدائيّة التي سئم المواطنون سوء الخدمة في كنفها.
ديوان الخدمات أعلن ربح 500 مليار سنتيم خلال أربعة أشهر فقط من الموسم الحالي، بفضل تطبيق الرقمنة على تسيير التغذية لوحدها، بحصر الاستفادة من الإطعام الجامعي على الطلبة المستحقين دون سواهم من الغرباء، أي توفير 125 مليار سنتيم للخزينة العمومية في كل شهر (منذ أكتوبر 2023 إلى نهاية جانفي 2024).
هذا المؤشر النموذجي في فرع واحد من قطاع التعليم العالي يمكن أن يفسّر لنا شكوى رئيس الجمهورية شخصيا، في مناسبات سابقة، من عراقيل وبيروقراطية تختلقها أطراف كثيرة مقاومة بشراسة للتغيير، لأنها تؤثر الاستمرار في الفوضى الممنهجة لأجل الانتفاع الخاص، إذ تضر بمصالحها الإصلاحات التي تفضي إلى فرض الشفافية في تسيير الشأن العام في كل المستويات.
لذلك، أبدى رئيس الجمهورية تشبثا قويا بمشروع الرقمنة لتطبيقها وتوسيعها مهما كانت الظروف، حتى جعل منها محور متابعة مركّزة ودقيقة ودورية داخل مجلس الوزراء، ترجمته إعادة هيكلة القطاع، باستحداث “محافظة سامية” تحت سلطة رئاسة الجمهورية مباشرة، تتمتع بصلاحيات واسعة تكون أعلى من سلطة الوزارات، ولا يمكن لأي جهة الوقوف في مسارها.
ولم يكن أبدا من قبيل الصدفة، أن يمهل الرئيس تبون الحكومة العام الماضي مهلة 6 أشهر من دون تأخير لرقمنة 3 قطاعات جد حيوية في إدارة المال العام، وهي أجهزة الجمارك والضرائب وأملاك الدولة، لأنّ أموال السوق الموازية والثروات المشبوهة والتهرّب الضريبي والاستيلاء على العقارات والممتلكات العامة، يمر عبر تلك القنوات التي ظلت تئنّ عمدا لعقود تحت أكوام من الوثائق البالية والمتناثرة بين المصالح المختلفة، بغرض التمويه المبرمج والحيلولة دون التحقق من ملاحقة أصحاب الأموال والأملاك غير الشرعية، ولا أدل على ذلك من العجز حتى الآن في تحصيل الضريبة على الثروة.
سنضرب مثالا بسيطا عن التساهل في التعامل مع المال العام على مستوى الجمارك، إذ لا تزال مثلا، إلى حد كتابة هذه الأسطر، عملية مراقبة وصل الخروج المقدّر بـ1000 دينار تتم بطريقة يدوية عبر المعابر الحدودية البرية، حيث يستلم عون الجمارك الوصل ويدوّن على سجل ورقي مرور المسافر، وبالتالي، يمكن في هذه الحالة عبور هذا الأخير دون استظهار “وصل الدفع” ولا شرائه أصلا من مصالح الضرائب.
والسبب وراء ذلك، أنه لا توجد شبكة نظام معلوماتي موحّدة بين مصالح الضرائب والجمارك والشرطة، تسمح بالتدقيق في دفع حقوق الخزينة العمومية عند الخروج البري، وهو ما يتيح التواطؤ بسهولة بين الأعوان والمسافرين، بغض النظر عن المقابل.
طبعا، لو نستشهد بعمليات الجمركة لبضائع الاستيراد والفوترة التجارية والتقديرات الضريبية وإحصاء العقارات وإعلانات الصفقات العمومية، فسنكون أمام ملايير الدولارات التي يتم تسييرها بطريقة تقليدية عفا عنها الزمن، في ظل الحوكمة المالية والإدارية التي بلغها العالم اليوم.
ومزايا الرقمنة تتعدى الإدارة المالية إلى فرض الشفافية في كل مناحي تسيير الشأن العام، وقد لاحظنا كيف استبشر المواطنون خيرا برقمنة مسابقات التوظيف بقطاعي التربية والتعليم العالي، حتى لو برزت مطالب بمراجعة معايير الترتيب، لكن الآلية، من حيث المبدأ، هي مكسب أساسي ينبغي تثبيته وترقيته لضمان الحق في المساواة وتكافؤ الفرص إحقاقا للقواعد الدستورية والقانونية.
أما تطوير الخدمات العمومية وتسهيل وصول المواطن إليها والاستفادة منها، فهو من نافلة القول، في سياق إبراز منافع الرقمنة التي تأخرت بلادنا كثيرا في تطبيقها، لغياب الإرادة السياسية الجادّة في الإصلاح أو استسلاما لجيوب المصالح ضمن لعبة التوازنات السلطوية التي ضبطت العلاقة بين القوى غير الدستورية قبل حراك 2019.
أما اليوم، فإنّ رئيس الجمهورية قد تحلّى بالشجاعة الكاملة، متحمّلا مسؤوليته الوطنية في الحرب على الفساد وصيانة المال، ولإدراكه أن تحقيق المبتغى لن يتأتّى إلا بالقطيعة مع التسيير المتخلف والانتقال إلى الإدارة العصرية، فقد جعل الرقمنة في كل القطاعات والمستويات أولوية قصوى مهما كلفه هذا القرار من ثمن.
ربّما لا يدرك كثيرون أن أزمات مفتعلة عاشتها الجزائر في حكم الرئيس تبون وعقبات مصطنعة يواجهونها يوميا ليست سوى تداعيات سلبيّة لرد فعل مضاد تجاه الرقمنة، قادته شبكات “مافيوية” ظلت تحتكر كل شيء في بلادنا، ونفّذه أيضا أعوان عموميون معزولون، بذهنيات متحجّرة تخشى التغيير الإيجابي، لأنه يجرّدها من منافع ضيّقة، بينما اعتادت الاسترزاق منها على حساب المواطن.
ولأجل القضاء على تلك “اللوبيّات” وتطهير المرفق العام من العقليات القديمة وتحقيق الشفافية المطلقة في إدارة الشأن العام، سيكون من واجبنا الوطني والأخلاقي دعم السلطات العليا في تجسيد برنامجها الإصلاحي إلى نهاية المطاف، حتى نصل بجزائرنا إلى ما يتطلع إليه أبناؤها المخلصون بين الأمم.

مقالات ذات صلة