الرأي

وأخيرا اعترف الجنرال….

التهامي مجوري
  • 25030
  • 14

إن التصريح الذي أدلى به الجنرال محمد تواتي، قبل أيام وتناولته بعض الصحف الوطنية بالعرض والتحليل، من أن إلغاء المسار الانتخابي سنة 1992 قد وسَّع دائرة الإرهاب في الجزائر، يقلب المواجع ككل التصريحات المتعلقة بالعشرية الحمراء. ورغم أن تصريح تواتي ليس ككل تصريح، لكونه صادر عن واحد من أصحاب القرار في تلك الأيام، وأحد المسؤولين عن ذلك أيضا، فإن مجرد الخوض في هذا الموضوع، يذكرنا بجرائم ارتكبت في حق هذا الشعب، لا تمسحها مجرد التوبة أو الندم العاري، من أي جهة كانت؛ لأن الجروح التي خلفتها غائرة جدا.

ولولا ضرورة التحذير من حماقات قد يرتكبها هذا الطرف أو ذاك، في بلادنا مرشحة –لا قدر الله- بسبب هذا الإنسداد السلطوي التام، والضعف الذي –تتمتع به- الطبقة السياسية العاجزة عن كل تجديد في خطابها ومشاريعها، لما سمحت لنفسي بالكلام في هذا الموضوع..، ولكن ضرورات الخوف من المستقبل تفرض على كل غيور على هذا البلد الاستعانة بالتاريخ على فهم الواقع والاستنتاج المثمر بتحليل الأحداث وقراءتها القراءة الجيدة البعيدة عن كل تحيز.

يمر هذه الأيام ربع قرن على إجهاض أول تجربة ديمقراطية في الجزائر، وذلك ابتداء من مواجهات صائفة 1991 التي توجت بإلغاء المسار الانتخابي في جانفي 1992، في وقت كان الشعب الجزائري ينتظر فيه إجراء الدور الثاني لانتخابات فازت بها الجبهات الثلاث، الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجبة التحرير الوطني وجبهة القوى الإشتراكية، مسجلة وراسمة بذلك الخريطة السياسة للمجتمع الجزائري، وهي الجبهات الممثلة حقيقة لخريطة المجتمع الجزائري المتكون من أغلبية للتيار الإسلامي، وتليها فئة الوطنيين وأخيرا التيار العلماني أو اللائكي، وهي الفئات  التي رشحها للفوز محمد بوضياف رحمه الله قبيل إجرائها وهو بالمغرب قبل أن يأتى به لإنهاء حياته على غير ما أراد، وذلك عندما قال في حوار أجرته معه جريدة الشعب “فوز جبهة الإنقاذ لما لها من شعبية، وفوز جبهة التحرير لما لها من رصيد تاريخي، أما جبهة القوى الإشتراكية فيرشحها بوضياف للفوز في بعض مناطق الوطن، وقد كان رحمه الله واحد من ضحايا الأزمة  التي عصفت بالبلاد كما لا يخفى، وقد استُنْجِد به لينقذها منها… ولكن ما يحير، لماذا لم يعمل بوضياف بهذه القناعة عندما جيء به ليكون على رأس الدولة؟ عندما نصبوه رئيسا للمجلس الأعلى للدولة؛ وما يحير أكثر أنه عمل بعكس قناعته، وكان مستعدا للذهاب إلى أبعد  ما يمكن ان يتصور العقل، فقد قال يومها إنه مستعد لاعتقال عشرات آلاف من الشباب في سبيل الجزائر!!! عندما سئل في برنامج مسيرة القرن التلفزيونية  «La marche du Siècle»، في إحدى القنوات الفرنسية، عن عشرة آلاف معتقلين في الصحراء ومحتجزين إداريا. وعندما زاره الرئيس بن يوسف بن خدة رحمه الله رفقة عبد الرحمن كيوان وأشارا عليه بالحوار مع الفيس المحظور يومها، قال لهما كلاما مفاده إن هذا الحزب ليس بالمستوى الذي يمكن أن يقدم شيئا!!!؛ لأن القوم أوهموه أن ستة أشهر كفيلة بالقضاء عليه وعلى أتباعه..،  كما حذره أيضا الرئيس أحمد بن بلة رحم الله الجميع من إجبار قواعد هذا الحزب على اللجوء إلى السرية…، وقال الرئيس بن بلة قلت له “إنك أعلم بما ستفرز السرية من مشاكل”… ومع كل ذلك لم يسمع بوضياف لأحد من الناصحين له من قدامى أصدقائه، إلا من جاءوا به أو المحيطين به من بقايا اليسار المتحالف مع اللبيرالية المتوحشة..، ولم تمض ستة أشهر حتى وجد نفسه في كماشة لا قبل له بمقاومتها لا بالفكر ولا بالفعل ولا بالقول.. وقد تحدثت وسائل الإعلام عن محاولات منه للتملص من التزاماته وعن هروبه إلى المغرب، معتذرا أو هاربا ممن جاءوا به ولكنه عجز…، ، إلى أن جاء قدر الله..، إذ لم يتصور له أحد نهاية غير التي كانت؛ لأنه لم يكن مستعدا حسب ما يروى عنه للمضي في الخط الذي أريد له أن يسير فيه، لا سيما وقد تكلمت الصحافة يومها على أنه سُلِّم ملفات ودخل في صدامات لم يجرؤ أحد على القيام بها مثل قضية الحاج بتو.. وأصحاب القرار لم يكونوا ليسمحوا له بممارسة قناعاته بعدما بدأ يكتشف بعض المزالق التي كانت عليها الأوضاع يومها.

لا شك أن ماضي بوضياف الوطني الثوري، واستجابته لما طلب منه في سنة 1992 من قبل السلطة، أمران مختلفان متناقضان؛ بل لا علاقة لأحدهما بالآخر، فهو معارض عاش في منفى بعد الاستقلال، ثم جاء ليفعل بالمعارضة ما فعلت به هو السلطة ذات يوم…، ومع ذلك اقتنع أنه جاء لينقذ البلاد… وإنما بعدما جاء ونزل إلى الواقع وشرع في ممارسة الحكم، بدأ يكتشف أنه لم يكن إلا الجسر الذي تمرر على ظهره قضايا لم يكن لها لتمر بسهولة.. فقد أعلن أنه لم يجد 60 نظيفا ليشكل المجلس الاستشاري الذي سيحل محل البرلمان الذي حل، كما أنه أعلن أن المدرسة الجزائرية منكوبة؛ لأنها خرجت الإرهابيين.. وعطل قانون تعميم اللغة العربية.. ولكنه سرعان ما عاد له وعيه، فبدأ يشعر بالخطإ أو الذنب او الغفلة.. فقال مثلا عندما نصب المجلس الاستشاري “أعلم أنني نصبت ستين باندي”، رغم أن منهم من اختارهم هو أو اختاروهم أصحابه رشيد كريم وصحبه الذين جاء بهم من فرنسا,, وغادروا الجزائر بمجرد اغتياله.

في 29 جوان تمر الذكرى 24 على اغتيال محمد بوضياف، رئيس المجلس الأعلى للدولة، ألذي أنشئ إثر “قرار” إلغاء النتائج الانتخابية في دورها الأول 1991/1992، ليحل محل الرئيس المستقيل أو المقال السيد الشاذلي بن جديد، وحل البرلمان الذي كان على رأسه عبد العزيز بلخادم.

لقد شكل هذا المجلس من خمس شخصيات ممثلة لشرائح لها ثقلها في الساحة الوطنية وهم: علي كافي الأمين العام لمنظمة المجاهدين، التي كانت مساندة للقرار المشار إليه آنفا، التيجاني هدام وجه محسوب على التيار الإسلامي، وقد كان يومها عميدا لمسجد باريس، وعلي هارون عن التيار اللائكي الرافض لكل انتخابات يفوز بها الإسلاميون، والجنرال خالد عن مؤسسة الجيش التي لا تزال تمسك بزمام الأمور في تلك المرحلة الانتقالية من التحول من النظام الحزبي الأحادي إلى النظام الحزبي التعددي، اما محمد بوضياف فقد جيء به من منفاه بالمغرب ليكون على رأس هذه الهيئة، وأشعر يومها بأنه المنقذ للجزائر  في أزمتها الوطنية، كما أنقذ حركتها الوطنية في سنة 1954، عندما تورطت في الخلافات بين فئاتها السياسية والإصلاحية والعسكرية، فانساق رحمه الله في عملية هو أول من يؤمن بفشلها، فقد توقع نتائج للإنتخابات كما أسلفنا وجاءت كما توقعها تماما، وقال في بداية الاستقلال عندما قرر مغادرة البلاد “لا يمكن أن أقبل بالسير في مشروع وفوق رأسي [مكحلة] رشاش، وستكون السلطة في الجزائر [تتلاوح] ملقاة في الشارع ولا يقبل بها أحد”، ولكنه بكل أسف جاء وفوق رأسه مكحلة؛ لأن الجيش هو الذي جاء به، وكانت السلطة “”تتلاوح” ولم يقبل بها أحد، فقد عرضت على آيت أحمد وبن بلة ولم يقبلا بها، وقبلها بوضياف..، ليقتل بعد ستة أشهر فقط من تسلمه لها.. ولا يزال ملف اغتياله تشوبه الكثير من التساؤلات، سوف يجيب عنها التاريخ ذات يوم.

إن اعتراف الجنرال تواتي بأن إلغاء المسار الانتخابي قد وسع دائرة الإرهاب، واعتراف غيره من زملائه من أنهم أخطأوا التقدير في ذلك، سواء تقدير المدة الزمنية التي قدروها للقضاء على الفيس، أو انهم لم يتوقعوا ما حصل.. من كل ذلك نفهم أن القوم نادمون على ما فعلوا وإن لم يصرحوا بذلك استعلاء وعنادا “تاغنانت”.. فتصريحات خالد نزال وعلي هارون ورضا مالك وغيرهم ممن كانوا وراء العملية.. لا يقولون كل الحقيقة عندما يتحدثون في الموضوع وإنما يوهمون الناس بأنهم أنقذوا الجزائر من بعبع يسمى الفيس لو استولى على السلطة لعاث في الأرض فسادا.. ولكنهم في نفس الوقت لا يستطيعون إخفاء حقيقة وهي أن الجزائر خسرت الكثير بسبب إلغاء المسار الانتخابي.. مما يدعونا إلى البحث في ما سخرته الجزائر بسبب إلغاء تلك الانتخابات المعبرة، لعله يكون موضوع مراجعة لاحقة بحول الله.

مقالات ذات صلة