وصف آكول! (الحلقة 26)
ليلة الأمس، وتحضيرا لما بعد رمضان، وبالتجربة في هذا الشهر الفضيل، وجدت نفسي مريضا بالمعدة، السبب كما قال لي الطبيب ليس الأكل الكثير، كما كنت متعودا عليه في كل أشهر رمضان طيلة عشر سنوات، أي منذ أن أصبت بخبطة عصب في العمل، أفقدتني توازني العقلي والفكري، فصرت أطفئ النار التي في داخلي بشيئين: الهدرة والمغزل! والمغزل بطبيعة الحال هو الأكل، صارت عندي منذ عشر سنوات شراهة في الأكل، مع ذلك، لا بدانة ولا سمنة، كأنه عندي “حنش بوسكة” في الكرش يأكل معي ويمشي معي في الأسواق. قالت لي زوجتي: راه عندك الدود في كرشك؟ قلت لها: لا دود ولا خنفوس، أنا في دودة نتاع الماكلة، بعدي مني خير ما ناكلك حتى أنت!
في هذه الأيام، وبعد الفطور، زرتُ طبيبي الخاص ككل سنة من رمضان. هذه المرة قال لي إن سبب مرضي ليس الأكل الكثير كما تعودت، بل الأكل القليل. قلت له: إذا كلينا تقولونا ديروا الريجيم، وإذا “رجمنا” تقولون لنا كولوا، أي شيء نصدق؟ قال لي ضاحكا: لقد حدث عندك نقص في الهرمونات المساعِدة على الهضم، عندك عسر في الهضم، أكلك غير متوازن، الأكل حضارة وليس شراهة ولا مجاعة، الرجيم علم وتقتنيه. قلت له: أعوذ بالله من شيطان الرجيم، أنا لا أتبع أي ريجيم، لا “ريجيم كومينسيت” ولا “ريجيم كابيطاليست”، أنا الريجيم نتاعي إسلامي: آكل فلا أشبع وأشبع فلا آكل! قال لي: هذا مش ريجيم إسلامي هذا رجيم “سوسياليست”، يخصنا لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، هذا هو الريجيم الإسلامي النبوي، كما أنه يجب أن لا تأكل أي شي، هناك توازن غذائي، ماذا كنت تأكل؟ قلت له: صاديبا.. مرات لا أجد غير “الخبيز”..”تيبي”.. فأرتع فيه كما يرتع الحمار في المرعى، ومرات لا أجد غير البطاطا فآكل منها مسلوقة ومقلية ومشوية ومطهية ومفوّرة ومدهونة ومطحونة. اللحم لا أكله إلا في المآدب والعرضات والجنائز ـ كثر الله منهاـ لأنه لا دعوات فيها توجّه، فالأعراس والمآدب قليلا ما أكون مدعوا إليها بسبب سلوكي الحضاري في الأكل: لما آكل، أتوقف أولا عن الهدرة، ثم أبدأ من جهة الطرف المقابل، أشتت شمل جهته ثم أقوم بمناورة على الميمنة، فأسقط الرقاب وأقطع الأوداج من الدجاج، ثم أقوم بإغارة على الميسرة، فأقطع أوصال الأعناق والأجنحة والصدر وأوغل في سفك الدم إلى أن أصل إلى القاعة الأمامية لجيش “الأصابع الخمسة المظفرة”، ألحس أصابعي وأترك الناس فاتحين أفواههم لأسابيع، لا يقدرون على مد اليد للماعون، فأستوي على الطبسي وما بقي فيه من مرق، ألحسه بشدق بحجم الحمامة الزاجلة، وأمشّطه تمشيطا يمينا وشمالا وعن أيمانهم وعن شمائلهم، إلى أن يجف دمه وعروقه وينبري الديك المرسوم في قاع الصحن وهو “يعوعش” فرحا إن لم تصله مقصلة يدي، عندها فقط، أرمي ذراعي الأيمن نحو قرعة القازوز، فأقزز بها قلوب الآكلة المتفرجين، أفرغها في جوفي “كليرو”، كما يفرغ “بيدون” ماء في دورة المياه، فيسمع للقازوز أزيز في بطني وهو يصل كشلال حامض ليروي ما أكلت. بعدها أتناول الفاكهة قطعة قطعة، ألتهمها بأسناني وأغرز فيها أنيابي، حتى إذا أنهيت المعركة وفرغت من أسر الكسر وسليل الماء الذي أفرغت مباشرة من قنينة الماء المعدني البارد، “تقرعت” وتجشأت وحمدت الله على أنه قد أذهب عني الجوع والحزن، وخرجت من المأدبة منتشيا ماشيا، لا أقوى عليه!