-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وهران ودلالات العرض الافتتاحي

عمار يزلي
  • 1418
  • 0
وهران ودلالات العرض الافتتاحي

العرض الافتتاحي للدورة الـ19 لألعاب البحر الأبيض المتوسط في وهران، بقدر ما كان جميلا وموفقا من حيث اختيار المواضيع والسينوغرافية وإدخال تكنولوجيات العرض الحديثة من خلال الطائرات المسيَّرة، يضاف إليه التنظيمُ الجيد خارج العرض وداخله، بقدر ما أعطى صورة عن جمال المدينة ولكن أيضا، عراقة تاريخها وتنوُّعها الثقافي الذي تتمتَّع به المدينة.

خصوصية وهران من حيث النشأة والتطوُّر والتعمير السكاني، جعلها بامتياز حاضنة لتنوُّع سكاني قلَّ نظيرُه في الجزائر، على الرغم من أنّ كل المدن الساحلية معروفٌ عنها تاريخيا أنها المدن الأكثر تهيؤا واستعدادا للكوسمو عرقية والجغرافية واللغوية.

ما زاد لوهران طابعها المنفتح على كل الوافدين وكل اللغات وكل العرقيات وكل المناطق الجغرافية الداخلية قبل تلك الخارجية الناجمة عن الغزو والاحتلال والتبادل التجاري مع الضفة الشمالية، هو إعادة تأسيسها وبنائها من جديد بعد زلزال 10 أكتوبر 1790، الذي ضرب المدينة ودمَّرها في العمق، والتي كان “ابن سحنون” قد أفرد لها كتابا يروي فيه كيف أن هذا الزلزال كان سببا في إخراج الإسبان من وهران ومباشرة الباي محمد الكبير في إعادة بناء وهران بعد خروجهم منها.

وفعلا، كان الباي محمد الكبير الذي لا يزال قصرُه إلى اليوم يطل على البحر من جهة حي سيدي الهوراي في أعالي الربوة، القصر الذي أعاد الباي تهيئته على بقايا الحصن الإسباني القديم، كان الباي محمد الكبير هو من أعاد بناء وهران بشكل كبير وهو مؤسِّس هذا التنوُّع الثقافي والعرقي والجغرافي الذي تشتهر به وهران اليوم، والذي تجلَّى في العرض الافتتاحي لألعاب البحر الأبيض المتوسط. فقد استقدم الباي السكان وخاصة البنائين وعائلاتهم من المدن المجاورة: بلعباس، مستغانم، تلمسان، معسكر، تيارت، غليزان، ومن مدينة وجدة المغربية. كما استقدم اليهودَ المعروفين كتجار وخصّ لهم زقاقا بقي إلى غاية الاستقلال يسمى “درب اليهود”، وصار اليوم يُعرف فقط بـ”الدرب” بعد جلاء اليهود عنه غداة الاستقلال في معظمهم.

رقصة العلاوي التي أبهرت الحاضرين في العرض، هي في الأصل رقصة عسكرية خاصة بالخيالة، والتي يبدو أنها تعود إلى تاريخ تجنيد قبائل تلمسان وخاصة نواحي سبدو، وهي القبائل العربية الهلالية المعروفة بالفروسية، للدفاع عن وهران غداة الاحتلال الإسباني، جنبا إلى جنب مع تجنُّد كل القبائل والعشائر الجنوبية بدءا من الأبيض سيدي الشيخ، وُيروى أن سيدي عبد القادر ولد سيدي الشيخ وليَّ البيّض الصالح اليوم، جُرح في إحدى معارك تحرير وهران من الاحتلال الإسباني، وتُوفي متأثرا بجروحه.

بقيَّة الرقصات، التي تأخذ أسماء لمناطق اشتهرت بها أو أسماء لإيقاعات رقصة الجنود المشاة: “سبيسة، عريشة، رقادة، الحايطي”، والتي اندمجت اليوم مع رقصة “العلاوي”، كما أظهره العرض، صارت فيما بعد عنوانا لرقصات وأغاني أعراس في كلِّ مناطق الغرب الجزائري، جنبا إلى جنب مع ظهور الأغنية البدوية المرتبطة بالقصيدة الملحونة، التي فسحت المجال أثناء الاحتلال للتحوُّل من “الراي العروبي” كما يسميه البعض، إلى “الراي المديني” أغنية الراي الحالية. غير أن المرأة لم تكن حاضرة في رقصات العلاوي ولا غيرها من الرقصات مع الرجال.. المرأة كانت تغني أحيانا خاصة المديح، ومنه جاءت فرقة “المدّاحات” بوهران، وتغني فقط للنساء، غير أن الرقص كان خاصا بالرجال. هذا ما توضحه أغنية الإمزاد الترقية في الجنوب التي هي أغنية نسوية، فيما أغنية التيندي في الأصل إيقاعٌ لرقص ذكوري، مثلها مثل رقصة “طاكوبا أغار” رقصة السيف والدرع. غير أنه وفي العهد الفرنسي القريب، وبفعل ما حدث ضمن التغيير في البنية الثقافية والدينية، صارت المرأة تشارك في الأعراس الصيفية راقصةً ومغنيِّةً أيضا.

رقصة الديوان، التي أبرزها العرض، هي في الواقع رقصة حي “المدينة الجديدة” بوهران، أو ما كانت تسمى في العهد الفرنسي “قرية الزنوج”، التي كان يقطنها السكان القادمون من الجنوب إما كعبيد من قبل، أو عبيد محررين فيما بعد، أو وافدين جدد. لهذا لا يزال ضريح “سيدي بلال” وسط المدينة الجديدة اليوم يمثل مركز الحي التاريخي الشاهد على ثقافة وحضارة التمازج العرقي الديني، إذ تحول الرقص والغناء الزنجي سواء “الديوان” أو “أهليل” أو ذلك المسمى بـ”القناوي”، أي القادم من “غينيا” مع المستقدَمين من العبيد قبل الاحتلال الفرنسي وحتى قبل الوجود التركي، وبالذات خلال الحكم الزياني في تلمسان والمريني في المغرب. رقصة الديوان، التي تعدّ “رقصة صوفية” زنجية، لها تاريخٌ كبير في النشأة والدلالة والطقوس.

العرض أظهر أيضا وبشكل جماعي، لعبة “المطرق”، أي لعبة العصا، وهي مشهورة بوهران وفي العديد من مدن الغرب الجزائري، ويتمرس عليها العديد من المعلمين والشيوخ والتلامذة من الشباب اليوم بشكل كبير، وهي ترمز إلى المقاومات المسلحة بالسيف قبل ظهور البندقية. لهذا نجد في كثير من الرقصات، يستعمل الرجال العصيَّ في الرقص بعد ما كانوا في السابق يستعملون البنادق، لكن البنادق بعد ما سكتت وزالت ضرورتها، صارت العصي رمزا لها.. وكذلك لا تزال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!