الرأي

يا‮ ‬أئمة‮ ‬المساجد‮.. ‬انتفضوا‮!‬

محمد يعقوبي
  • 5376
  • 34

حزنت‮ ‬كثيرا‮ ‬وأنا‮ ‬أستمع‮ ‬لأحد‮ ‬الأئمة‮ ‬في‮ ‬درس‮ ‬العشاء‮ ‬يستفرغ‮ ‬جهده‮ ‬لقرابة‮ ‬10‮ ‬دقائق‮ ‬في‮ ‬شرح‮ “‬لام‮ ‬التحقيق‮” ‬وكيف‮ ‬وردت‮ ‬في‮ ‬السياق‮ ‬القرآني‮ ‬على‮ ‬أكثر‮ ‬من‮ ‬وجه‮..‬

حزنت لأن هذاالإمام كان يجيس بين يديه مئات الشباب ينتظرون سماع ما يفيدهم في دينهم ودنياهم، لذلك اضطر كثير منهم إلى حمل المصاحف وتلاوة القرآن هروبا من درس “النحو والصرف” الذي غرق فيه صاحبنا الإمام غفر الله لنا وله.

وعجبت ممن يحشد الله بين يديه جموعا غفيرة من الناس تخلت عن كل شيء لتسمع ما يرقق قلوبها ويقوي عزائمها، ثم لا يشرح الله صدره لقول ما يجب في الوقت الذي يجب بالطريقة التي تجب، خاصة ونحن في شهر رمضان الذي له وهج خاص على الجزائريين، فتقوى عاطفتهم الدينية ويتضاعف استعدادهم‮ ‬لسماع‮ ‬كلام‮ ‬الله‮ ‬وفهمه‮ ‬والعمل‮ ‬به،‮ ‬ثم‮ ‬لا‮ ‬يجدون‮ ‬من‮ ‬يأخذ‮ ‬بيدهم‮ ‬إلى‮ ‬الرشاد‮ ‬ويعمّق‮ ‬مفاهيم‮ ‬الإيمان‮ ‬في‮ ‬قلوبهم‮ ‬لتتحول‮ ‬إلى‮ ‬سلوكات‮ ‬تعود‮ ‬بالخير‮ ‬على‮ ‬حال‮ ‬الناس‮ ‬وأحوال‮ ‬الوطن‮.‬

لا يحق لنا أن نعمم فنعتقد أن كل أئمتنا عاجزون على الأخذ بيد الناس والرفع من هممهم إلى معالي الخيرية، لكن علينا أن نعترف أننا عاجزون على تمكين الإمام والمسجد من القيام بدورهما الاجتماعي والتوعوي في مجتمع منهك بالأمراض النفسية والأخلاقية وفي حاجة إلى مصلحين ومرشدين‮ ‬ومربين‮ ‬أكثر‮ ‬من‮ ‬حاجته‮ ‬إلى‮ ‬الأطباء‮ ‬والمهندسين‮ ‬والطيارين‮..‬

لدينا في الجزائر والحمد لله أكثر من 17 ألف منبر مسجدي يتداول عليها أكثر من 80 ألف إمام يجلس بين يديهم أكثر من 14 مليون جزائري حسب تقديرات نسبية لوزارة الشؤون الدينية، ومؤسسة بهذا الحجم وهذه القدسية، كان يجب أن يكون لها دور أكثر أهمية لمعالجة ما نحن فيه من تخلف وإحباط وشقاق ونفاق وسوء أخلاق، لأن كلمة الإمام مسموعة في حيه أكثر من كلمة رئيس البلدية ورئيس الدائرة والوالي والوزير، وما يستطيع الإمام فعله من ترشيد وتدبير لا تقوى الحكومات المتعاقبة على تحقيقه، ببساطة لأن المجتمع الجزائري يثق كل الثقة في أئمتنا ومساجدنا ولا يثق إطلاقا في المسؤولين من قمة الهرم إلى أدناه، فلماذا يفضل غالبية الأئمة الحياد والانزواء والابتعاد عن مشاكل الناس، والانغماس فقط في فقه الطهارات (على أهميتها) بينما يستطيع الإمام أن يضع حدا لو أراد لحرب الشوارع التي تعرفها بعض الأحياء السكنية، أبطالها مراهقون ومنحرفون فشلت مصالح الأمن في تربيتهم بعد أن رفعت مدارسنا الراية البيضاء، ولم تبق سوى المساجد لإحداث تلك الثورة الأخلاقية التي أحدثها الرسول عليه الصلاة والسلام في أصحاب رضوان الله عليهم.

لعل المساجد هي المكان الوحيد الذي يهرب إليه الناس من همومهم ومشاكلهم، وعلى الإمام أن يفهم أن هؤلاء المستجيرين ببيوت الله والملتزمين بالصلاة فيها، إنما يبحثون عن الغذاء الروحي الذي يساعدهم على حل مشاكلهم اليومية التي عجز عن حلها “المير والوالي والوزير” ومن المؤسف‮ ‬أن‮ ‬الكثير‮ ‬من‮ ‬أئمتنا‮ ‬عن‮ ‬حسن‮ ‬نية‮ ‬يهدرون‮ ‬هذا‮ ‬الاستعداد‮ ‬وهذه‮ ‬القابلية،‮ ‬وهم‮ ‬كمن‮ ‬يضرب‮ ‬الدف‮ ‬في‮ ‬مأتم‮ ‬أو‮ ‬يلقي‮ ‬خطبة‮ ‬عن‮ ‬الموت‮ ‬في‮ ‬حفل‮ ‬زفاف‮!‬

لسنا هنا لنعلم الأئمة ماذا يفعلون وماذا يقولون، بل لنشعرهم بحجم المسؤولية في الأخذ بيد الناس إلى الخير والعمل والحضارة، فلقد سخر الله المسلمين ليجلسوا بين يديكم ويلبوا نداءكم حتى يفقهوا شؤون دينهم ودنياهم، ولا أظن أحدا يعترض على ذلك بدعوى أن الرقابة في قطاع الشؤون الدينية لا تسمح للإمام أن يحاكي مشاكل الناس ويحاول مساعدتهم على حلها، ويحارب الآفات الاجتماعية بنفس القوة التي تحارب بها الشرطة، ويربي الأجيال بنفس العزيمة التي توجد في المدرسة، ويصلح بين الناس سواء طلبوا منه ذلك أو لم يطلبوا.. ولا أعتقد أن وزارة الشؤون‮ ‬الدينية‮ ‬تمنع‮ ‬الأئمة‮ ‬من‮ ‬أن‮ ‬يكونوا‮ ‬مصلحين‮ ‬اجتماعيين‮ ‬في‮ ‬دروسهم‮ ‬وخطبهم‮ ‬وفي‮ ‬حياتهم‮ ‬اليومية،‮ ‬بل‮ ‬أعرف‮ ‬نماذجَ‮ ‬من‮ ‬الأئمة‮ ‬استطاعوا‮ ‬أن‮ ‬يغيروا‮ ‬واقع‮ ‬الناس‮ ‬بتلك‮ ‬السلطة‮ ‬المعنوية‮ ‬التي‮ ‬وهبهم‮ ‬الله‮…‬

لعل أهم أسباب تراجع دور الإمام والمسجد هو قلة اهتمام الدولة بالمؤسسة الدينية، فإمام يتقاضى أقل من 3 ملايين سنتيم ليس من العدل أن نطالبه بما يفوق جهده وطاقته، بل نخشى أن هذا القهر الاجتماعي المسلط على الإمام، مقصود منه تحييد المسجد عن دوره في إصلاح المجتمع وترك الإمام يتخبط في مشاكل اجتماعية تفوق مشاكل الذين يصلون خلفه، بل ربما تجده محل شفقة من المصلين، كذلك الإمام الذي أثقله الديْن ولم يقوَ على تسديده، ما جعل ذلك التاجر المدين له ينزله من المنبر ويسقط هيبته بين المصلين.. مثلما حدث في أحد مساجد العاصمة، وهي جريمة فضيعة تقترفها الدولة في حق المؤسسة الدينية عندما تهين الإمام وتضعف جانبه وتجعله في حاجة إلى مساعدة المصلين.. يجمعون له التبرعات ليقوى على مجابهة الحياة.. فكيف له بعد ذلك أن يصلح حالهم أو ينصحهم في الدين والدنيا؟!

مقالات ذات صلة