يعز من يشاء ويذل من يشاء
من منا لم تؤثر فيه صورة الرئيس مبارك وابنيه علاء وجمال وهم ماثلون وراء قفص الاتهام، بعد أن كانت مصر كلها في كفوفهم والجميع يهتف لهم؟ من منا لم تهتز مشاعره لهذا السقوط المدوي لواحد من أعتى الرؤساء العرب؟
-
لقد بدا ظهور مبارك على تلك الصورة المهينة أقوى عقاب له ولعائلته من أي أحكام قد تصدر في حقهم، فليس سهلا أن يتحول الرجل بين عشية وضحاها من الآمر الناهي المطاع المتحكم في زمام الأمور، إلى متهم مكسور الجناح ماثلا خلف قضبان الاتهام، ولعل المشهد الذي تابعه العالم أمس، هو الآية المرئية الأكثر وقعا على نفوسنا في شهر رمضان المعظم عنوانها الرباني “يعز من يشاء ويذل من يشاء”..
-
صحيح إنه مشهد يهز المشاعر.. لكن بالرجوع خطوات قليلة إلى الوراء ومحاولة تكبير الصورة التي دفعت بالرئيس المخلوع إلى هذا الموقف المذل، نكتشف أن الذي يحصل لمبارك وعائلته وأذرعه الضاربة، هو أقل بكثير مما كان يجب أن يحصل لرجل عمرّ 30 سنة على رأس دولة بحجم وأهمية مصر.. رجل دمر بلدا جميلا وقسم خيراته على من يحب ويرضى.. رجل أوغل في تفقير المصريين وتشريدهم، مستغلا سلطته في نزع اللقمة من المواطن المصري المعدوم ووضعها في حجر الصهاينة ومن يحملونهم، فمبارك هو الوحيد في تاريخ مصر من سولت له نفسه بيع الغاز المصري بالدينار الرمزي لإسرائيل مقابل عمولات شخصية وخيالية، وهذه وحدها تقوده إلى حبل المشنقة.. رجل طوع مصر الكنانة وجعلها لعبة في أيدي الأمريكان والصهاينة، يضربون بها العراق ويحاصرون بها غزة ويذلون بها العرب.. رجل لم يلتق الشعب المصري خلال 30 سنة من حكمه، ولا يعرف شوارع الفقر وأزقة الهوان، بل يقضي معظم وقته كما ذكر كبير خدمه، في مشاهدة برامج التلفزيون وخاصة روتانا، وهو يجد الوقت ليكلم هذا الفنان أو ذاك حول فيلمه أو مسلسله الجديد ولا يجد الوقت لتذكر 40 مليون فقير مصري في البيوت الهشة والعشوائيات.. رجل عاش في برج عاج لا يسمع ولا يرى إلا ما يرضيه، يحبس ويعذب دون محاكمات ويقتل في الأجيال الصاعدة كل ما يعيد مصر إلى ريادتها.. رجل لم يجد صعوبة في مواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي في الشوارع، ولم يجد حرجا في مهاجمة معتصمين مسالمين بالخيول والجمال، ولم يجد حرجا في تحريض أزلامه على شتم الجزائر وشهدائها.. رجل كان يظن أنه خالد فيها ولن يستطيع أحد أن يهدد عرشه أو يزيحه عن كرسي عمرّ فيه كما لم يعمر فيه أحد من قبله..
-
نعم ظهر مبارك مذلولا مهانا طريح الفراش ليكون آية للعالمين، آية لزملائه من الرؤساء والحكام الذين يعيثون فسادا في شعوبهم، حتى يتأكدوا أنهم إلى ذات المصير إن هم احتقروا شعوبهم واستنزفوها فسادا ورشوة وعبثا بمقدراتها… آية لكل المتجبرين في الأرض أن يلتفتوا إلى النفوس التي ظلموها وإلى الناس الذين أخذوا حقوقهم بالباطل، وإلى السحت الذي يأكلونه والحرام الذي يعيشون به على حساب الآخرين..
-
لقد طابت نفوس أسر الشهداء وهم يشاهدون الطاغوت الذي قتل أبناءها ماثلا أو ممدودا على سرير المحاكمة ووحدها هذه تشفي غليل المجروحين في انتظار عدالة القصاص وعدالة السماء.